المبحث الثالث

مَقْتلُ أميرِ المُؤمنينَ عليِّ بنِ أَبي طَالبٍ  رضي الله عنه سنةَ ٤٠ هـ

  حينَ هَدَأَتِ الأُمُورُ قَلِيلاً بعدَ مَعْرَكةِ النَّهروانِ بفترةٍ تُقَارِبُ السَّنَتينِ، انْتدبَ ثلاثةٌ مِنَ الخَوَارجِ، فاجْتَمَعُوا بِمَكَّةَ وتَعَاقَدُوا لَيَقْتُلُنَّ عليَّ بنَ أَبي طَالبٍ، ومعاويةَ بنَ أَبي سُفْيانَ، وعمرَو بنَ العاصِ.

  قَالُوا: نَتَقَرَّبُ إلىٰ  اللهِ بقَتْلِ هَؤُلاء الثَّلاثةِ، وذَلكَ لَيُرِيحُوا العبادَ منهم ــــ كَمَا يَزْعُمُونَ ــــ، فَقَالَ عبدُ الرحمـٰـنِ بنُ مُلجِمٍ المُرَاديُّ: أَنَا لِعَلِيِّ  بنِ أَبي طَالبٍ، وقَال البَرْكُ التَّمِيميُّ: أنا لِمُعَاويةَ، أما عَمْرُو بنُ بكرٍ التَّمِيميُّ؛ فقَالَ: أنا لعَمْرِو بنِ العاصِ واتَّفَقُوا علىٰ أَنْ يَكُونَ ذلك بعدَ سَبعَ عشرةَ ليلةٍ من رَمضانَ.

  وكان عَمْرٌو في مِصرَ، ومَعاويةُ في الشَّامِ، وعليٌّ في الكُوفةِ، فَطَعَنَ ابنُ مُلْجِمٍ عَلِيّاً، وهو خَارِجٌ لِصَلاةِ الفَجْرِ بِخِنْجَرٍ قَدْ سَمَّه أُسْبُوعاً، وقَالَ عليٌّ لمّا طُعِنَ: إِنْ أَنَا شُفِيْتُ فَأَنَا حَجِيجُه، وإِنْ أَنَا مِتُّ فَاقْتُلَاه بي (يخاطبُ الحسنَ والحسينَ).

  فَقَالَ ابنُ مُلْجِمٍ: لَا واللهِ فِإني سَممتُه جُمُعَةً (يريدُ: سبعةَ أيامٍ).

  وقد طُلبَ مِنْ عليٍّ أنْ يكونَ له حَرَسٌ فقال: لي حَرَسٌ، ثم قَرَأَ قوْلَه تعالىٰ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ... ١١﴾ ، فإذا جاءَ أمْرُ الله خلّت بينه وبينه.

  فَلَمَّا مَاتَ عليٌّ  رضي الله عنه جَاؤُوا فَقَطَعُوا يَدَي ابنِ مُلْجِمٍ وسَمَلُوا عَينَيْه وهُو ثَابِتٌ لم يَجْزَعْ، فَلَمَّا أَرَادُوا قَطْعَ لِسَانِه خَافَ قَالُوا: الآنَ؟ قَالَ: إِنِّي أَخْشَىٰ أَنْ أَعيشَ فَتْرةً لَا أَذْكُر  اللهَ فيها!

  سُبْحانَ  اللهِ!! هَذَا هو الضَّلالُ المُبينُ والعِياذُ باللهِ، يَسْتَبيحُ دَمَ وَلِيٍّ مِن أَوْلِياءِ  اللهِ ثُمَّ يَخْشَىٰ أَنْ تَمُرَّ عليه لَحْظةٌ لَا يَذْكُرُ  اللهَ فيها!

  وخَرَجَ البَرْكُ لمُعَاويَةَ في صَلَاةِ الفَجْرِ فَضَرَبَه ولَكِن أَصَابَه وَلَم يَقْتُلْه، وعُولِجَ ولكِن ذُكِرَ أَنَّها كَانَت سبباً في قَطْعِ نَسْلِه.

  والذي أَرَادَ عَمْرَو بنَ العاصِ خَرَجَ إلىٰ الصَّلاةِ وكَانَ عَمْرٌو قَد أُصِيبَ بإسْهَالٍ فَلَم يَخْرُجْ إلىٰ الصَّلاةِ، فَقَتَلَ الإِمَامَ يَظُنُّه عَمْرَو بنَ العَاصِ وكَانَ الإِمَامُ خَارِجةَ بنَ أَبِي حَبيبٍ، فَجَاءَ وضَرَبَه فَقَتَلَه في الصَّلَاةِ فَأَمْسَكُوه قَالُوا: مَاذَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: أَرَحْتُ النَّاسَ من عَمْرِو بنِ العاصِ قَالُوا: مَا قَتَلْتَ عَمراً، وإِنَّما قَتَلْتَ خَارِجةَ.

 قَالَ: أَرْدْتُ عَمراً وأَرَادَ  اللهُ خَارِجةَ([1])، فقُتِل وقُتِلَ البَركُ وقُتِلَ عبدُ  الرحمـٰـنِ بنُ مُلجمٍ([2]).

 قال عمران بن حطان يمدح قاتل علي:

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البرية عند الله ميزانا

وردَّ عليه بعض الغيورين فقال:

بل ضربة من شقي ما أراد بها

إلا ليهدم للإسلام أركانا

إني لأذكره يوماً فألعنه

دنيا وألعن عمراناً وحطاناً

  وبَلَغَ عَبدَ المَلِكِ بنَ مَروانَ ما قاله عمران؛ أدرَكَتهُ حَميةٌ لِقَرابَتِهِ مِن عَلي فَنَذَرَ دَمَهُ، ووضَعَ عَلَيهِ العُيونَ، فَلَم تَحمِلهُ أَرضٌ([3]).

 

([1])    وصارتْ هذه الجملةُ فيما بعد مَثَلاً شائعاً.

([2])   «الطبقات الكبرىٰ» (٣/٣٥)، «البداية والنهاية» (٧/٣٣٨).

([3])   ينظر: «البداية والنهاية» (٨/١٣٣)، «سير أعلام النبلاء» (٣/١٣٣).