خامساً: مَعْرَكةُ النَّهرَوانِ (سنة ٣٨هـ):

  رَجَعَ عليٌّ  رضي الله عنه إلىٰ الكُوفِةِ، فَخَرَجَ عليه الخَوَارِجُ وكَانُوا قَد رَفَضُوا التَّحكيمَ وقَالُوا: لا حُكْمَ إلَّا للهِ، وَبَدَؤُوا يُشغِّبونَ علىٰ عليٍّ حتىٰ في المَسجدِ يَقُومُونَ ويَصِيحُونَ: لا حُكْمَ إلا لله، لا حُكْمَ إلَّا للهِ.

  وكَانَ عليٌّ  رضي الله عنه يَقولُ: «كَلِمةُ حقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ»([1]).

  ثمَّ بعدَ ذَلِك قَتَلُوا الصَّحَابِيَّ الجَليلَ عبدَ  الله بنَ خبّابِ  رضي الله عنه، وقَتَلُوا جارِيَتَهُ وبَقَرُوا بَطْنَهَا وكَانَت حَامِلاً مُتِمَّةً([2]) في شَهْرِها، فَلمَّا بَلَغَ الأمرُ عَلِيّاً أَرْسلَ إليهم: مَنْ قَتَلَه؟ فَرَدُّوا عليه كُلُّنا قَتَلْنَاه، فَخَرَجَ إليهم عليٌّ  رضي الله عنه بجيشٍ قِوَامُه عشرةُ آلافٍ فَقَتَلَهُم في النَّهْرَوَانِ.

  عن عُبيدِ  اللهِ بنِ عياضِ بنِ عَمْرٍو القَاري قَالَ: جَاءَ عبدُ  اللهِ بنُ شَدّادٍ فَدَخَلَ علىٰ عَائِشةَ ونَحْنُ عِندَها جُلُوسٌ، مَرْجِعَه من العِرَاقِ لَيالِي قُتِلَ عَلِيٌّ فَقَالَت له: يا عبدَ  اللهِ بنَ شدَّادٍ هل أَنْتَ صَادِقي عَمَّا أَسْأَلُك عنه؟ تُحَدِّثُني عن هَؤُلاءِ القَومِ الذين قَتَلَهم عليٌّ؟ قَالَ: ومَا لِي لا أَصْدُقُكِ! قَالَت: فَحَدِّثْني عن قِصَّتِهم.

  قَالَ: فإِنَّ عليّاً لَمَّا كَاتَبَ مُعَاويةَ وحَكَمَ الحَكَمَانِ خَرَجَ عليه ثَمَانيةُ آلافٍ من قُرَّاءِ النَّاسِ، فَنَزَلُوا بأَرضٍ يُقَالُ لَها «حروراء» من جَانبِ الكُوفةِ، وأَنَّهم عَتَبُوا عليه وقَالُوا: انْسَلَخْتَ من قميصٍ ألبَسَكَ  اللهُ تعالىٰ، واسمٍ سَمَّاكَ  اللهُ تَعَالَىٰ به، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ في دينِ  اللهِ الرِّجَالَ، ولا حُكْمَ إلّا للهِ تَعَالَىٰ.

  فَلَمَّا أَن بَلَغَ عليّاً ما عَتَبُوا عليه وفَارَقُوه عليه، أَمَرَ مُؤَذِّناً فَأَذَّنَ أَلَّا يَدْخلَ عَلَىٰ أَميرِ المُؤْمِنينَ إلَّا رجلٌ قد حَمَلَ القُرْآنَ، فَلَمَّا امْتَلأَتِ الدَّارُ من قُرّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصحفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَه بين يَدِيه، فَجَعَلَ يَصُكُّه بيدِه ويَقُولُ: أَيُّهَا المُصْحفُ! حَدِّثِ النَّاسَ! فَنَادَاه النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَميرَ المُؤْمنينَ مَا تَسْأَلُ عنه؟ إِنَّما هو مِدَادٌ في وَرَقٍ! ونحنُ نَتَكلَّمُ بِمَا رُوِّيناه منه! فَمَاذَا تُرِيدُ؟

  قَالَ: أصْحَابُكم هَؤُلاءِ الذين خَرَجُوا، بَيني وبَيْنَهم كِتَابُ  اللهِ، يَقُولُ  اللهُ تَعَالَىٰ في كِتَابِه في امرأةٍ ورَجُلٍ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ٣٥﴾ [النساء: ٣٥].، فأُمَّةُ مُحمَّدٍ أَعظمُ دماً وحُرْمةً من امرأةٍ ورَجُلٍ.

  ونَقَمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مَعُاويةَ «كَتَبَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالبٍ»([3]). وَقَد جَاءَنَا سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو ونَحْنُ مَعَ رَسُولِ  اللهِ بالحُدَيبيةِ حِينَ صَالحَ قَومَه قُرَيشاً، فَكَتَبَ رَسُولُ  اللهِ «بسمِ  اللهِ الرحمـٰـنِ الرَّحِيم» فَقَالَ سُهيلٌ: لَا تَكْتُبْ «بِسمِ  اللهِ الرحمـٰـنِ الرحيم»، فَقَالَ: «كَيفَ نَكْتُبُ؟» فَقَالَ: اكْتُبْ «باسمِكَ اللَّهُمَّ»، فقال رسولُ  اللهِ: فَاكْتُب «مُحَمَّدٌ رَسُولُ  اللهِ». فَقَالَ: لَو أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ  اللهِ لَمْ أُخَالِفْكَ. فَكَتَبَ: «هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمّدُ بنُ عبدِ  اللهِ قُرَيشاً»، يَقُولُ  اللهُ تَعَالَىٰ في كتابه: ﴿لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا ﴾ [الأحزاب: ٢١].

  فَبَعَثَ إليهم عليٌّ عبدَ  اللهِ بنَ عَبَّاسٍ، فَخَرَجْتُ مَعَه، حَتَّىٰ إِذَا تَوَسَّطْنا معَسْكَرَهُم قَامَ ابنُ الكواءِ يخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا حملةَ القُرآنِ إنَّ هذا عبدُ  اللهِ بنُ عَبَّاسٍ، فَمَنْ لم يَكُن يَعْرِفُه فَأَنَا أُعَرِّفُهُ من كِتَابِ  اللهِ مَا يُعَرِّفُه بِهِ، هَذَا مِمَّن نَزَلَ فيه وفي قَومِه: ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ٥٨﴾ [الزخرف: ٥٨]، فَرُدُّوه إلىٰ أصْحَابِه، ولَا تَوَاضعُوه كِتابَ  اللهِ.

  فَقَامَ خُطَبَاؤُهم فَقَالُوا: واللهِ لَنُواضِعَنَّه كتابَ  اللهِ، فإن جَاءَ بحقٍّ نَعْرفُه لَنَتَّبِعنَّه، وإِنْ جَاءَ بِبَاطلٍ لَنُبَكِّتَنَّهُ بِبَاطِلِه. فَواضَعُوا عبدَ  اللهِ الكتابَ ثلاثةَ أيامٍ، فَرَجَعَ منهم أَربعةُ آلافٍ كُلُّهم تَائِبٌ، فيهم ابنُ الكوَّاءِ، حتىٰ أَدْخَلَهُم علىٰ عليٍّ الكُوفةَ([4]).

فبَعَثَ عليٌّ إلىٰ بَقِيَّتِهِم، فَقَالَ: قَدْ كَانَ من أَمْرِنا وأَمْرِ النَّاسِ مَا قَد رَأَيْتُم، فَقِفُوا حيثُ شِئْتُم حَتَّىٰ تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمِّدٍ، بَيننا وبَينَكم أَلَّا تَسْفِكُوا دَمَا حَرَاماً أو تَقْطعُوا سَبِيلاً أو تَظْلِمُوا ذِمَّةً، فإنَّكُم إِنْ فَعَلْتُمِ فَقَد نَبَذْنَا إِلَيكُم الحَرْبَ علىٰ سَوَاء، إِنَّ  اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنينَ، فَقَالَت لَه عَائِشةُ: يَا ابنَ شَدَّادٍ، فَقَد قَتَلَهُم، فَقَالَ: واللهِ ما بَعَثَ إليهم حَتَّىٰ قَطَعُوا السَّبِيلَ، وسَفَكُوا الدَّمَ، واسْتَحَلُّوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَقَالَت: آلله؟ قَالَ: آلله الذي لا إِلـٰـهَ إِلَّا هو لَقَد كَانَ، قَالَت: فَمَا شَيءٌ بَلَغَني عن أَهْلِ الذِّمَّةِ يَتَحَدَّثُونَه، يَقُولُون: ذُو الثّدي وذُو الثّدي؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُه وقُمْتُ مع عليٍّ عَلَيه في القَتْلَىٰ، فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ جَاءَ يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُه في مَسجِدِ بني فُلانٍ يُصَلِي، ورَأيْتُه في مَسْجِدِ بني فُلانٍ يُصَلِّي، ولَمْ يَأْتُوا فيه بثَبتٍ يَعْرِفُه إِلَّا ذَلِك، قَالَت: فَمَا قَولُ عليٍّ حِينَ قَامَ عَلَيه كَمَا يَزْعُمُ أهلُ العِراقِ؟ قال: سَمِعْتُه يَقُولُ: صَدَقَ  اللهُ ورُسُولُه، قَالَت: هَلْ سَمِعْتَ مِنه أَنَّه قَالَ غيرَ ذلِك؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، قَالَت: أَجَل، صَدَقَ  اللهُ ورَسُولُه، يَرْحَمُ  اللهُ عَلِيّاً، إِنَّه كَانَ مِن كَلَامِه لَا يَرَىٰ شَيْئاً يُعْجِبُه إلَّا قَالَ: صَدَقَ  اللهُ ورَسُولُه، فَيَذْهَبُ أَهلُ العِرَاقِ يَكْذِبُون عَلَيه، ويَزِيدُون عليه في الحديثِ([5]).

  وَكَانَ عَدَدُ الخَوَارجِ أَلْفَ رَجُلٍ فَقَتَلَهُم ولَمْ يُقْتَلْ من جيشِ عليٍّ إلَّا أربعةٌ أو سبعةٌ في بعضِ الرِّوَاياتِ([6]).

  وكَانَ بينهم المُخَدَّجُ ذو الثُديَةِ الذي رَآه عليٌّ  رضي الله عنه وكَانَ رَسُولُ  الله قد أَخْبرَ أَنَّه تَخْرُجُ فِرْقَةٌ علىٰ حِينِ اخْتِلافٍ بين المُسْلِمينَ تَقْتُلُهُم أَوْلَىٰ الطَّائِفَتينِ بالحَقِّ، وذَكَرَ في حديثٍ آخرَ أنَّ فيهم ذَا الثُّديّةِ([7])، فَصَار عليٌّ يَبْحثُ عنه في القَتْلَىٰ حَتَّىٰ وَجَدَه فَلَمَّا وَجَدَه سَجَدَ للهِ شُكْراً([8])؛ إِذْ عَلِمَ أنَّه علىٰ الحقِّ.

 

([1])    وقد صارت كلمته هذه مثلاً سائراً.

([2])   يعني: في الشهر التاسع.

([3])   يريدُ أنّهم نقَموا عليه أنه كتبَ اسمَهُ مُجرداً عن إِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ.

([4])   «مستدرك الحاكم» (٢/١٥٠).

([5])   أخرجه أحـمد (٦٥٦)، وقالَ أحمد شاكر: «إسناده صحيح».

([6])   «البداية والنهاية» (٧/٢٩٨).

([7])   أخرجه مسلم (١٠٦٤، ١٤٨) وما بعده، وانظر: «صحيح البُخَارِيّ»، كتاب الْمناقب، باب علامات النبوة، حديث (٣٦١٠).

([8])   أخرجه أحـمد (٨٤٨) بتحقيق أحمد شاكر، وقالَ: «إسناده صحيح».