رابعاً: قِصَّةُ التحْكِيمِ:

  وانْتَهَت مَعْرَكَةُ صِفِّينَ بالتَّحْكِيمِ؛ أي: تَوقَّفُوا عَنِ القِتَالِ بأَنْ رُفِعَت المَصَاحِفُ علىٰ الرِّمَاحِ، ورَضِيَ عليٌّ  رضي الله عنه بالتَّحكيمِ، ورَجَعَ إلىٰ الكُوفةِ، ورَجَعَ معاويةُ إلىٰ الشَّامِ علىٰ أن يَكُونَ التَّحكيمُ في رَمَضَانَ، وأَرْسلَ عليٌّ أبا مُوسَىٰ الأشْعَريَّ، وأَرْسلَ مُعاويةُ عمرَو بنَ العاصِ.

  وقِصَّةُ التَّحكيمِ المَشْهورةُ هي أَنَّ عمرَو بنَ العاصِ اتَّفَقَ مع أبي مُوسَىٰ الأَشعريِّ علىٰ عَزْلِ عليٍّ ومعاويةَ، فَصَعَد أبو مُوسَىٰ الأشعريّ المِنْبرَ وَقَالَ: أنا أَنْزِعُ عَلِيّاً مِنَ الخِلَافةِ كَمَا أَنْزعُ خَاتَمي هَذا، ثمَّ نَزَعَ خَاتَمَه، وقَامَ عَمْرُو بنُ العاصِ وقَالَ: وَأَنَا أَنْزعُ عَلِيّاً كَذَلِك كَمَا نَزَعَه أَبُو مُوسَىٰ وكَمَا أَنْزعُ خَاتَمي هَذَا، وأُثبِّتُ مُعَاويةَ كَمَا أُثَبِّتُ خَاتَمِي هَذَا. فَكثُر اللغَطُ، وَخَرَجَ أبو مُوسَىٰ غَاضِباً ورَجَعَ إلىٰ مَكَّةَ ولم يَذْهَبْ إلىٰ عليٍّ في الكُوفةِ خجلاً؛ لأنَّ عَمرو بنَ العَاص قد غَشَّهُ، ورَجَعَ عَمْرُو بنُ العاصِ إلىٰ الشَّامِ([1]).

  هذه القِصَّةُ مُزَوَّرَةٌ مَكْذُوبةٌ، بَطَلُهَا أَبُو مِخْنَفٍ الذي ذَكَرْنَاه أَكْثرَ من مَرَّةٍ. والقَصَّةُ الصَّحِيحةُ كَمَا رَوَاهَا أَهْلُ الحَقِّ: وَهِي أَنَّ عَمْرَو بنَ العَاصِ الْتَقَىٰ مع أَبي مُوسَىٰ الأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: مَا تَرىٰ في هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ أَبُو مُوسَىٰ: أَرَىٰ أَنَّه مِنَ النَّفَرِ الذين تُوُفِّي رَسُولُ  اللهِ وَهُو رَاضٍ عَنْهُم([2])، فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: فَأَينَ تَجْعَلُنِي أَنَا ومُعَاويةَ؟ قَالَ أَبُو مُوسَىٰ: إِن يَسْتَعِنْ بِكُما فَفِيكُما المَعونَةُ، وإِنْ يَسْتَغْنِ عَنكُما فَطَالَمَا اسْتَغْنَىٰ أَمْرُ  اللهِ عَنكُما([3]). ثمَّ انتهىٰ الأَمْرُ عَلَىٰ هذا فَرَجَعَ عَمْرُو بنُ العاصِ إلىٰ مُعَاويةَ بِهذَا الخَبَرِ ورَجَعَ أَبُو مُوسَىٰ إلىٰ عَلِيٍّ به.

  والرّوايةُ الأُولَىٰ لا شكَّ أَنَّها باطلةٌ لِثلاثةِ أُمُورٍ:

  أَوَّلاً: السَّندُ ضَعِيفٌ، فيه أَبُو مِخْنفٍ الكَذَّابُ.

  ثَانياً: خَليفةُ المُسْلِمين لَا يَعزِلُه أَبُو مُوسَىٰ الأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيرُه، إِذْ لَا يُعْزَلُ عندَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهذه السُّهُولةِ.

  فَكَيفَ يَتَّفِقُ رَجُلانِ علىٰ عَزْلِ أَميرِ المُؤْمنينَ، هَذا كَلامٌ غيرُ صَحيحٍ، والذي وَقَعَ في التَّحْكيمِ هو أَنَّهُما اتَّفَقَا علىٰ أَن يَبْقَىٰ عليٌّ في الكوفةِ وهو خَليفةُ المُسْلِمينَ وأنْ يَبْقَىٰ مُعاويةُ في الشَّامِ أَمِيراً عليها، وأَنْ تَتَوَقَّفَ الحَرْبُ بينهُمَا.

  ثالثاً: الرِّوايةُ الصَّحيحةُ التي ذَكَرْنَاها.

 

([1])    «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (٤/٥١)، و«الكامل في التَّاريخ» (٣/١٦٨).
وعمرُو بنُ العاصِ: صحابيٌّ جليلٌ هاجرَ طوعاً لا كرهاً، فلم يكن في المهاجرين نفاقٌ لعدمِ الحاجةِ إليه، وإنما كان النفاقُ في أهلِ المدينةِ وذلك أن أشرافَ مكةَ وكبراءَها كانوا كفاراً وكان المؤمنُ يؤذَىٰ فأنّىٰ يتأتّىٰ النفاقُ؟! وقد قال رسولُ  اللهِ  ﷺ: «ابنا العاصِ مؤمنانِ عمروٌ وهشامٌ» أخرجه أحمد (٢/٣٠٤).

([2])   يقصدُ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ  رضي الله عنه.

([3])   انظرْ تفصيلَ قضيةِ التّحكيمِ في كتابِ: «مرويات أبي مِخْنَفٍ في تاريخ الطَّبَرِيّ» وقد عزاه إلىٰ «التَّاريخِ الكبير» (٥/٣٩٨). وانظر: «تاريخ دِمَشْقَ» (٤٦/١٥) ترجمة: عمرو ابن العاص  رضي الله عنه.