مع مَنْ كان الحَقُّ؟

  قَالَ ابنُ حَجَرٍرحمه الله: «ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَىٰ تَصْويبِ مَنْ قَاتَلَ مَعَ عليٍّ، وقَد ثَبَتَ أنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيّاً كَانُوا بُغاةً، ومَعَ هَذا التَّصويبِ فَهُم مُتَّفِقُونَ علىٰ أَنَّه لَا يُذَمُّ واحدٌ مِنْ هَؤُلاءِ، بل يَقُولُونَ: اجتَهدُوا فَأَخْطَؤوا»([1]).

  وقَالَ: «اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ علىٰ وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ علىٰ أَحَدٍ من الصَّحابةِ بِسَببِ مَا وَقَعَ منهم ولو عُرِفَ المحِقُّ منهم؛ لأَنَّهم لَمْ يُقَاتِلُوا إِلَّا عن اجْتِهَادٍ»([2]).

  وقَالَ الطَّبريُّ في تَقْوِيَةِ مَذْهِبِ مَنْ نَاصَرَ عَلِيّاً  رضي الله عنه: «لو كَانَ الوَاجِبُ في كُلِّ اخْتِلَافٍ يَقَعُ بين المُسْلِمينَ الهُرُوبُ منه بِلُزُومِ المَنَازلِ لَمَا أُقيمَ حَدٌّ، ولَا أُبطلَ بَاطِلٌ، ولَوَجَدَ أَهْلُ الفُسُوقِ سَبيلاً إِلَىٰ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ»([3]).

  قُلْتُ: هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إِذَا تَبَيَّنَ الأَمْرُ، وَلَكِن إِذَا كَانَت الأُمُورُ مُشْتَبهةً لَزِمَ الاْبتِعَادُ، فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ الكَثِيرُ عن المُشَارَكَةِ في هَذِه المَعْرَكة.

  إِذاً؛ فَالذِي يَجِبُ أَن نَعْتَقِدَه أَنَّ طَلْحةَ وَالزُّبيرَ ومَنْ مَعَهُما وكَذَلِكَ عَليٌّ ومَنْ معه إِنَّما قَاتَلُوا عن اجْتِهَادٍ، والأَمْرُ كَانَ فِتنةً، ومَعْرَكَةُ الجَمَلِ بالذَّاتِ لم تَكُنْ عن اسْتِعْدَادٍ لِقِتَالٍ، ولَم يَكُونُوا يَرِيدُونَ القِتَالَ.

  ونَقَلَ ابنُ حَزْمٍ، وابنُ تَيميّةَ عن الجُمهورِ الامْتِناعَ عن الكَلَامِ في هذه المَسْأَلةِ.

  قَالَ ابنُ تيميّةَ  رحمه الله: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ عَلِيّاً بَدَأَهُم القِتَالَ؟

  قِيلَ له: وَهُم أَوّلاً امْتَنعُوا عن طَاعَتِه، ومُبَايَعتِه، وجَعَلُوه ظَالِماً مُشَارِكاً في دَمِ عُثمانَ، وقَبِلُوا عليه شَهادَةَ الزَّورِ([4]).

  قُلْتُ: أُشيعَ عندَ أَهْلِ الشَّامِ أنَّ عَلِيّاً رَضِيَ بِقَتْلِ عُثمانَ.

  وَرَاجَتْ هَذِه الإِشَاعةُ عندَ أَهْلِ الشَّامِ لأربعةِ أُمُورٍ:

  •   عَدَمُ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثمانَ.
  • مَعْرَكةُ الجَمَلِ.
  •  تَرْكُ المَدِينةِ والسَّكَنُ بالكُوفةِ، والكُوفَةُ هي مَعْقِلُ قَتَلَةِ عُثمانَ.
  •  أنَّ في جَيشِ عليٍّ مَنْ هو مُتَّهَمٌ بقَتْلِ عُثمانَ، مثْلُ الأَشْترِ النَّخَعِي.

  لِهذه الأُمُورِ الأَربعةِ وَقَعَ الشَّكُّ عندَ أَهْلِ الشَّامِ (عندَ الجَهَلَةِ منهم) أَنَّ لعليٍّ يَداً في قَتْلِ عُثمانَ  ، ولَيسَ لِعَلِيٍّ يَدٌ بلْ كَانَ يَلْعَنُ قَتَلَةَ عُثمانَ، فإِنْ قِيلَ: هَذا وَحْدَه لم يُبِحْ له قِتَالَهم. قيل: إِنَّه مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُم أَنْ يُقَاتِلُوا عَلِيّاً  رضي الله عنه لِكَونِه عَاجِزاً عن قَتْلِ قَتَلَةِ عُثمانَ، بَلْ لو كَانَ قَادِراً عَلَىٰ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثمانَ وتَرَكَه إِمَّا مُتَأَوِّلاً أو مُذْنِباً، لم يَكُن ذَلِكَ مُوجِباً لِتَفْريقِ الجَمَاعةِ والامْتِناعِ عن بَيعتِه، بل كَانَت مُبَايَعَتُه علىٰ كُلِّ حَالٍ أَصْلَحَ في الدِّينِ وأَنفعَ لِلمُسْلِمينَ([5]).

 

([1])    «فتح الباري» (١٣/٧٢).

([2])   «فتح الباري» (١٣/٣٧).

([3])   «فتح الباري» (١٣/٣٧).

([4])   «منهاج السُّنَّة» (٤/٤١٠).

([5])   «منهاج السُّنَّة» (٤/٤١١).