لِمَاذا لم يَقْتُلْ عليٌّ قَتَلَةَ عُثمانَ؟:

  عَلَيٌّ  رضي الله عنه كَانَ يَنْظُرُ نَظَرَ مَصْلَحةٍ وَمَفْسَدةٍ، فَرَأَىٰ أَنَّ المَصْلَحةَ تَقْتَضِي تَأَخيرَ القِصَاصِ لَا تَرْكَه، فَأَخَّرَ القِصَاصَ مَن أَجْلِ هَذا، كَمَا فَعَلَ النَّبيُّ في حَادِثةِ الإِفْكِ، وذَلِكَ أَنَّه تَكَلَّمَ في عَائشةَ   بعضُ النَّاسِ.

  ومِنْ أَشْهَرِ مَنْ تَكَلَّمَ في عَائشةَ حَسَّانُ بنُ ثَابتٍ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، ومِسْطحُ بنُ أُثَاثَةَ، وكَانَ الذي تَوَلَّىٰ كِبْرَه عبدُ  اللهِ بنُ أُبيّ ابنِ سَلُولٍ. فَصَعدَ النَّبيُّ المِنْبرَ وَقَالَ: «مَنْ يَعْذُرُني في رَجُلٍ وَصَلَ أَذَاه إلىٰ أَهْلِي»؟ (يَعْني: عبدَ  اللهِ بنَ أُبيّ ابنِ سَلُولٍ) فَقَامَ سَعدُ بنُ مُعاذٍ وقَالَ: أَنَا أَعذُرُكَ منه يَا  رَسُولَ  اللهِ! إِنْ كَانَ مِنَّا مَعْشرَ الأوسِ قَتَلْنَاه، وإِنْ كَانَ من إِخْوَانِنا الخَزْرجِ أَمَرْتَنا بِقَتْلِه.

  فَقَامَ سَعدُ بنُ عبادةَ فَرَدَّ علىٰ سَعدِ بنِ مُعاذٍ، وقَامَ أُسَيدُ بنُ حُضيرٍ فَرَدَّ علىٰ سَعْدِ بنِ عبادةَ، فَصَارَ النَّبيُّ يُخَفِّضُهم([1]). وعَلِم أَنَّ الأمرَ عَظِيمٌ، وذَلِكَ أَنَّه قَبلَ مَجِيءِ النِّبيِّ إلىٰ المَدِينةِ كَانَ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ قَدْ اتَّفَقُوا علىٰ أَنْ يَجْعَلُوا عبدَ  اللهِ بنَ أُبيّ ابنِ سَلُولٍ مَلِكاً عليهم، فَلَه عِندَهُم مَنْزِلةٌ عَظِيمةٌ، وَهُو الذي رَجَعَ بِثُلثِ الجَيشِ في معركةِ أُحُدٍ، والنَّبِيُّ هنا تَرَكَ جَلْدَ عبدَ  اللهِ بنَ أُبيّ ابن سَلُولٍ، لماذا؟ لِلمَصْلَحةِ؛ إذْ رَأَىٰ أن جلْدَه أَعظمُ مَفْسدةً من تَرْكِه.

  وكَذِلكَ عليٌّ  رضي الله عنه رَأَىٰ أَنَّ تَأْخيرَ القِصَاصِ أَقلُّ مَفْسدةً من تَعْجِيلهِ؛ لأنَّ  عَلِيّاً  رضي الله عنه لا يَسْتطيعُ أَنْ يَقْتلَ قَتَلَةَ عُثمانَ أصْلاً؛ لأنهم غيرُ معروفينَ بأعيانِهم، وإن كان هناك رؤوس للفتنةِ، ولكن لهم قَبَائلُ تُدَافعُ عنهم، والأَمْنُ غيرُ مُسْتَتِبٍّ، ومَا زَالَتِ الفِتنةُ قَائِمةً، وَمَن يَقُولُ إِنَّهم لن يَقْتُلُوا عَلِيّاً  رضي الله عنه؟ وقد قَتَلُوه بعدَ ذلك.

  وَلِذلك لَمَّا وَصَلَتِ الخِلَافةُ إلىٰ مُعَاويةَ لم يَقْتلْ قَتَلَةَ عُثمانَ أيضاً؛ لأَنَّه صَارَ يَرَىٰ مَا كَانَ يَرَاه عليٌّ، كَانَ عليٌّ يَرَاه وَاقِعاً، ومعاويةُ كَانَ يَرَاه نظريّاً، فَلَمَّا آلتِ الخِلافةُ إليه رَآه وَاقِعاً، نَعَم مُعَاويةُ أَرْسلَ مَنْ قَتَلَ بعضَهم ولكن بقي آخرونَ إلىٰ زَمَنِ الحَجَّاجِ في خِلافةِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانِ حتىٰ قُتِلَ آخرُهُم. المهمُّ أنَّ عَلِيّاً  رضي الله عنه مَا كَانَ يَسْتطيعُ أن يَقْتُلَهُم، لَيسَ عَجْزاً، ولكن خوفاً علىٰ الأُمَّةِ.

 

([1])    أخرجه البُخَارِيّ (٤١٤١)، ومُسْلم (٢٧٧٠).