أَسْبَابُ الفِتْنَةِ
20-03-2023
أَسْبَابُ الفِتْنَةِ:
أولاً: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ الْيَهودي([1]):
وهو سَبَبٌ رئيسٌ في الْفِتْنَةِ، وقد تَسالَمَ المتقدِّمون علىٰ إثباتِ هذه الشَّخصيَّةِ، بل ونَسَبُوا فرقةً من الفرقِ إلىٰ عبدِ اللهِ بنِ سبأَ فَسَمَّوها السَّبَئِيَّةَ أوِ السَّبَائِيَّةَ، ونَسَبُوا إليها مُعْتقداتٍ خاصةً بها، وممّن أَنْكَرَ هذه المسألةَ رجلٌ يُقال له مُرْتَضَىٰ العَسْكَرِيُّ، في كتابٍ له أَسْمَاه: «عبدُ اللهِ بنُ سبأَ وأساطيرُ أُخْرىٰ».
وممَّن أَنْكَرَ ابنَ سبأَ أيضاً «طه حسين» في كتابه «عليٌّ وبنوه» أمَّا (طه حسين) فلم يَزِدْ علىٰ طريقتِه المعتادةِ في إِنْكَارِ اليقينيَّاتِ والمُسَلَّمَاتِ كما في كتابِه في الشِّعْرِ الجَاهِليّ، حيثُ أَنْكَرَ أن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ قد بَنَيَا الكعبةَ قائلاً: «لِلقُرآنِ أن يُحَدِّثَنا عن هذا، ولكن لا يَلْزَمُ أنه وَقَعَ» فهو قد سَارَ علىٰ طريقةِ الشَّكِّ في كلِّ شيءٍ.
وأما هذا العسكريُّ فحاولَ أن يُلَبِّسَ علىٰ النَّاسِ، إِذْ زَعَمَ أن طريقتَهُ عِلْمِيَّةٌ وأنه جَمَعَ الأحاديثَ والرِّواياتِ التي ذَكَرَت ابنَ سبأ وثَبتَت عندَه أَنَّها من طريقِ سيفِ بنِ عُمَرَ، وسيفٌ كَذَّابٌ فلا وجودَ إذاً لابنِ سبأ. وهذا باطِلٌ من وُجُوهٍ:
الوجه الأول: جاء عندَ ابنِ عساكرَ من طريقِ عَمّارٍ الدّهنيِّ عن أبي الطُّفيلِ ومن طريق شُعبةَ عن سلمةَ عن زيدِ بنِ وَهْبٍ ذكر ابن سبأ لما جيء به إلىٰ عليٍّ وليس من طريقِ سيفِ بنِ عُمَرَ([2])
الوجه الثاني: أثبتَ كثيرٌ من مُؤَرِّخِي الشِّيعةِ وجَامِعي مَقَالَاتِهم ومُحَدِّثِيهم هذه الشَّخصيَّةَ في كُتُبِهم.
ــــ فهذا النوبختيُّ في كتابِه «فِرَقُ الشِّيعَةِ» بعدَ أن ذَكَرَ أَقْوالَ ابنِ سبأ قال: وهذه الفرقةُ تُسَمَّىٰ «السَّبَئِيَّةَ» أصحابُ عبدِ اللهِ بنِ سبأَ([3]) (وقد تُوُفِّي النُّوبَخْتِيُّ في القرنِ الثالثِ الهِجْرِيّ).
ــــ رَوَىٰ الكِشِّيُّ في كِتَابِه «رجالُ الشِّيعةِ» عن أبي جعفرٍ أنّ عبدَ اللهِ بنَ سبأ كانَ يَدَّعِي النُّبوَّةَ، ويزعُمُ أن أميرَ المؤمنينَ هو اللهُ([4]).
ورَوَىٰ رواياتٍ أُخْرىٰ عن جعفرٍ الصَّادقِ رحمه الله في ذِكْرِ ابنِ سبأَ حتىٰ ذَكَرَ أَكْثَرَ من خمسِ رواياتٍ.
ــــ الصَّدوقُ في كتابِه «مَنْ لا يَحضُرُه الفقيه»([5]).
ــــ الطُّوسيُّ شيخُ الطائفةِ([6]).
ــــ المَجْلِسيُّ باقرُ علومِ الأَئِمَّةِ عندهم([7]).
ــــ النوريُّ الطَّبرسيُّ([8]).
ــــ وغيرُهم كثيرٌ تَرَكْتُهم لعدمِ الإطالةِ
الوجه الثالث: وأما أهلُ السُّنَّةِ : فكلُّ مَن أَرّخَ هذه الْحِقْبةَ ذكرَ ابنَ سبأ وأثرَه فيها. علىٰ أنه لَـمْ ينكرْ وجودَ ابنِ سبأ إلا المتأخرون من كُتّابِ الشِّيعةِ، وتابعهم عليه كُتّابُ السُّنّةِ الذين يجهلون ما يرمي إليه الشَّيعَةُ في إنكارِهم لِهذه الشخصيةِ.
وعبدُ اللهِ بنُ سبأَ هو يَمَانيٌّ يَهودِيٌّ أَظْهَرَ الإِسْلَامَ، ثمَّ انْتَهَجَ التَّشَيُّعَ لعليٍّ رضي الله عنه، وهو الذي تُنْسَبُ إليه فِرْقةُ السَّبَئِيَّةِ الذين قَالُوا بِأُلُوهِيَّةِ عليٍّ رضي الله عنه، وهم الذين جاؤوا لعليِّ بنِ أبي طالبٍ، فقالوا له: أنتَ هو. قال: ومَنْ هو؟ قالوا: أنتَ اللهُ. فأَمَرَ مولاه قنبَرا بأن يَحْفرَ حفرةً، ويُشْعلَ فيها النَّارَ، وقال:
لمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْراً مُنْكَراً
أَجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قَنبراً([9])
وقال: مَنْ لم يرجعْ عن هذا القولِ أَحْرَقْتُه بالنَّارِ، فأَحْرَقَ الكثيرين منهم، وفَرَّ منهم مَنْ فَرَّ، ومنهم عبدُ اللهِ بنُ سبأَ، وقيل: إنه قُتِلَ، والعِلْمُ عندَ اللهِ تباركَ وتعالىٰ.
وأظهرَ ابنُ سبأَ بعضَ العقائدِ اليهوديَّةِ؛ كالقولِ بالرجعةِ والوصِيِّ، وأن الإمامةَ تكونُ في بيتٍ واحدٍ، وغير ذلك. واسْتغَلَّ الأعرابَ، فأخذ يُشِيعُ عندَهم الأكاذيبَ مُدَّعِياً أنَّ عثمانَ فَعَلَ كذا وكذا، وكَتَبَ كُتُباً مُزَوَّرةً ــــ هو ومَنْ سَاعَدَه ــــ علىٰ الزُّبيرِ، وعليٍّ، وطَلْحَةَ، وعَائِشَةَ، وغيرهم من أصحابِ النَّبيِّ، ويَخْتُمُونَها بأختامِهم المُزَوَّرَةِ، كُلُّها فيها الإِنكَارُ علىٰ عثمانَ والتَّذَمُّرُ من سياسَتِه، وفي السابقِ لا توجدُ أجهزةُ اتِّصَالاتٍ حَدِيثةٌ كما هو الآن، والمُتَلَقُّون أَعْرَابٌ تأتيهم هذه الأَخْبارُ فَيَقْبَلُونَ ويُصَدِّقُونَ، فَصَبأَ إليه غيرُ واحدٍ من ذوي الشِّقاقِ والنفاق، وكان يقولُ لحديثي السِّنِّ وقَلِيلي التَّجْرِبةِ: «عَجَباً لمن يَزْعُمُ أن عيسىٰ يَرْجِعُ ويُكَذِّبُ بأنَّ مُحمَّداً يَرْجِعُ وقد قالَ : ﴿إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ... ٨٥﴾ [القصص: ٨٥] فمحمَّدٌ أحقُّ بالرجوعِ من عيسىٰ». وكان يقول: «كان فيما مَضَىٰ ألفُ نبيٍّ ولكل نبيٍّ وَصِيٌّ وإن عَليّاً وصيُّ مُحمَّدٍ». فاستجابَ له ناسٌ في مختلفِ الطَّبقاتِ فاتَّخذَ بعضَهم دعاةً فَهِمُوا أَغْرَاضَه وَدَعَوا إليها، وآخرون صدقوا قولَه فَصَاروا يَدْعُون إليه عن عمايةٍ.
ومن دُعَاتِه الذين أسَهَمُوا في نَشْرِ دَعْوَتِه: الغَافِقيُّ بنُ حَرْبٍ، عبدُ الرحمـٰـنِ بنُ عديس البلويُّ، كنانةُ بنُ بشرٍ، سودانُ بنُ حمرانَ، عبدُ اللهِ ابنُ زيدِ بنِ ورقاءَ، عمرو بنُ الحمقِ الخزاعيُّ، حرقوصُ بنُ زهيرٍ، حكيمُ ابنُ جبلةً، قتيرةُ السكونيُّ، وغيرُهم([10]).
وهـٰؤلاءِ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ الكُتبَ التي زُوِّرَتْ علىٰ أصْحابِ النَّبي ﷺ لِعَليٍّ وطَلحةَ والُّزبيرِ وعائشَة رضي الله عنهم.
وأمّا تزويرُ الكتب فقد قال مَسْروقٌ: قالت عائشةُ: تَرَكْتُمُوه (أي: عُثمان) كالثَّوبِ النَّقِيِّ مِنَ الدَّنَسِ، ثُمَّ قَرَّبْتُمُوه تَذْبَحُونَه كما يُذْبَحُ الكَبْشُ.
فقالَ لها مسروقٌ: هذا عَمَلُكِ كَتَبْتِ إلىٰ النَّاسِ تَأْمُرِينَهم بالخُرُوجِ عليه.
فقالت عائشةُ: والذي آمَنَ به المُؤْمِنُونَ وكَفَرَ به الكَافِرُونَ، ما كَتَبْتُ لهم سَواداً في بياضٍ، حتىٰ جَلَسْتُ مَجْلِسِي هذا.
قال الأعمشُ: فَكَانُوا يَرَون أَنَّه كُتِبَ علىٰ لِسَانِهَا([11]).
فكُتِبَتْ كُتُبٌ مُزَوَّرَةٌ علىٰ أَلْسِنَةِ أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ، كُلُّهَا تَذُمُّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ، فعبدُ اللهِ بنُ سبأَ هذا له أَتباعٌ في شَتَّىٰ الولاياتِ، وكانوا يُرْسِلُون إليه، ويُرْسِلُ إليهم، ويُرْسِلُ بعضُهم إلىٰ بعضٍ: فَعَلَ بنا الوَالِي كذا بأَمْرِ عُثمانَ، وفَعَل بنا الوالي كذا بأَمْرِ عُثمانَ، ذَهَبْنَا إلىٰ المدينةِ فَفَعَلَ عُثمانُ بنا كذا، وعُثمانُ فَعَلَ بأصحابِ مُحمَّدٍ كذا، وجَاءَتْنَا رِسَالةٌ مِنَ الزُّبيرِ بنِ العَوَّامِ، جَاءَنا خِطابٌ من عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، جَاءَنَا كِتَابٌ من عَائِشةَ، جَاءَنا كذا، فَصَارَ الأَعْرَابُ الذين لا يَفْقَهُونَ من دينِ اللهِ تباركَ وتعالىٰ إِلَّا الشَّيءَ اليسيرَ يَتَأَثَّرُونَ بهذه الأمورِ، فَغَلَتْ علىٰ عثمانَ رضي الله عنه القلوبُ.
ثانِياً: الرَّخَاء الذي أَصَابَ الأُمَّةَ الإِسْلَامِيَّةَ:
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمه الله: قَلَّمَا يَأْتِي علىٰ النَّاسِ يومٌ إلا وَيَقْتَسِمُون فيه خيراً، حتىٰ إِنَّه يُنَادَىٰ: تَعَالوا عبادَ اللهِ، خُذُوا نَصِيبَكم مِنَ العَسَلِ، تَعَالوا عبادَ اللهِ، خُذْوا نَصِيبَكم مِنَ المَالِ([12]). وَذَلك لأَنَّ الجهادَ كانَ في أَوجِهِ في زَمَنِ عُثمانَ رضي الله عنه، والرَّخاءُ من عادتِه أن يورثَ مثلَ هذه الأشياءِ، وهو التَّذَمُّرُ، وعَدَمُ القَبولِ، وذلك لبطرِ النَّاسِ، وعَدَمِ شُكْرِهم.
ثالِثاً: الاختلافُ بين طَبْعِ عُثمانَ وطَبْعِ عُمَرَ:
فكان عُمَرُ رضي الله عنه شديداً، وكانَ عُثمانُ رضي الله عنه حليماً رَؤُوفاً، غيرَ أَنَّه لم يَكُنْ ضعيفاً كَمَا يدَّعِي كثيرٌ من النَّاسِ، بل كانَ حَلِيماً، ولذلك عِنْدَما حَاصَرُوه في البيتِ قال: أَتَدْرُونَ ما جَرَّأَكُم عَلَيَّ؟ ما جَرَّأَكُم عَلَيَّ إلَّا حِلْمِي.
وقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: واللهِ لقد نَقَمُوا علىٰ عُثمانَ أشياء لو فَعَلَها عُمَرُ ما تَكَلَّمَ منهم أحدٌ.
إذاً لماذا نَقَمُوا علىٰ عُثمانَ؟ لأنَّ عثمانَ كان يُسَامِحُ ويَتْرُكُ ويُفَوِّتُ لهم تلكَ الأخطاءَ ويَعْفُو رضي الله عنه.
رابِعاً: اسْتِثْقَالُ بَعضِ القَبَائِل لِرئَاسَةِ قُرَيشٍ:
القَبَائِلُ العَرَبيَّةُ التي دَخَلَتْ فِي الإِسلامِ وبخَاصَّةٍ تلك الَّتِي ارْتَدَّ بعضُ رِجَالِها عن دِينِ اللهِ ــــ تَباركَ وَتَعَالىَٰ ــــ ثُمَّ رَجَعُوا بعدَ أن قُوتِلُوا، رَجَعَ بعضُهم إلىٰ الإِسْلامِ عن قَنَاعةٍ، وبَعْضُهم من غيرِ قَنَاعةٍ، وبَعْضُهم رَجَعَ وفي القلبِ شَيءٌ، أولئك اسْتَثْقَلُوا أن تكونَ الرِّئَاسَةُ دائماً في قُرَيشٍ، لماذا الرِّئَاسَةُ في قُرَيشٍ؟ ولذلك يقولُ ابنُ خلدون: «وَجَدَتْ بعضُ القبائلِ العربيَّةِ الرِّئَاسَةَ علىٰ قُرَيشٍ، وأَنِفَتْ نُفُوسُهم، فكانوا يُظْهِرُونَ الطَّعنَ في الولاةِ»([13])، وَوَجَدُوا في لِينِ عُثمانَ فُرْصةً لذلك.
هذه هي أهمُّ الأسبابِ، وهناك أَسبابٌ أُخْرَىٰ أَدَّتْ إلىٰ تلك الفِتنةِ تَرَكْتُهَا مَخَافةَ الإِطَالةِ.
([1]) انظر كتاب: «عَبْدُ الله بنُ سبأ هل هو حقيقةٌ أم خيال؟».
([2]) «تاريخ دمشق» (٢٩/٦) في ترجمة عبد الله بن سبأ.
([6]) في كتابه «رجال الطوسي» (ص١).
([7]) في كتابه «بحار الأنوار» (٥١/٢١٠) و(٤٢/١٤٦).
([8]) في كتابه «مستدرك الوسائل» (١٨/١٦٩).
([9]) أصلُه في «صحيح البُخَارِيّ (٦٩٢٢)، وتفصيل القِصَّة ذكرها الْحافظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، وقالَ: «رويناه في الْجزءِ الثالثِ من «حديثِ أبي طَاهرٍ الْمخلص» وسندُه حسنُ».
([10]) «مختصر التحفة الاثنىٰ عشرية» (٣١٨).
وهؤلاء منهم من صدَّق الكتب التي زُوِّرت على أصحاب رسول الله ﷺ، كعلي وطلحة والزبير وعائشة.
([11]) «البداية والنهاية» (٧/٢٠٤). قالَ ابنُ كَثيرٍ: «إسناده صحيح».
([12]) «تحقيق مواقف الصَّحَابَة في الفتنة» (١/٣٦٠).
([13]) نقلاً عن «تحقيق مواقف الصَّحَابَة في الفتنة» (١/٣٦٥).