الفَصْلُ الثَّالثُ

خِلافةُ أَمِيرِ المُؤمنينَ عُثمانَ بنِ عَفَّان  رضي الله عنه
مِن سَنَةِ ٢٣ إلىٰ ٣٥هـ

 

المبحث الأول

كيفيّةُ تَوَلِّي عثمانَ بنِ عفَّانَ  رضي الله عنه الخلافةَ

قِصَّةُ الشُّورَىٰ:

  لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ  رضي الله عنه، جَعَلَ الخَلَافَةَ في سِتَّةِ نَفَرٍ هم: عثمانُ بنُ عفَّانَ، عليُّ بنُ أَبي طالبٍ، طَلْحَةُ بنُ عُبيدِ  اللهِ، الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، عبدُ  الرَّحمـٰـنِ بنُ عَوْفٍ، سَعدُ بنُ أَبي وَقَّاصٍ، وَقِصَّةُ الشُّورَىٰ رَواها الإمامُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ (حتَّىٰ نَعْلَمَ أَنَّ التَّاريخَ لا يَضِيعُ) فهذَا الإِمامُ البُخَاريُّ رَوَىٰ لنا أعْظَمَ قَضِيَّتَيِنْ كَثُرَ حَولَهُما الجَدَلُ: السَّقِيفَةُ وَالشُّورَىٰ.

  وَلَقَدْ ذَكَرَ البُخارِيُّ قِصَّةً طَوِيلةً في مَقْتَلِ عُمَرَ  رضي الله عنه حَتَّىٰ وَصَلَ إلىٰ أنَّهُ قِيلَ لِعُمرَ  رضي الله عنه: أَوْصِ يا أميرَ المؤمنينَ، اسْتَخْلِفْ.

  قال: ما أَجِدُ أَحَقَّ بِهذا الأمرِ من هؤلاءِ النفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ الذين تُوفِّيَ رسولُ  اللهِ وهُو عَنْهُم راضٍ، فَسَمَّىٰ عَلِيَّا، وعثمانَ، والزبيرَ، وطَلْحَةَ، وَسَعْداً، وعبدَ الرحمـٰـنِ بنَ عوفٍ.

  وقال: «يَشْهَدُكُم عبدُ  الله بنُ عُمرَ، وليسَ لَهُ مِنَ الأمرِ شَيءٌ، فإِنْ أَصَابَتْ الإِمْرَةُ سَعْداً فهو ذاكَ، وإلَّا فَلْيَسْتَعنْ بِهِ أيُّكُم ما أُمِّرَ، فإِنِّي لَمْ أعزِلْهُ عن عَجْزٍ ولا خِيانةٍ»([1]).

  فلمَّا فُرِغَ من دفنهِ اجْتَمَعُوا  رضي الله عنهم، فقال عبدُ الرحمـٰـنِ: «اجْعَلوا أَمْرَكم إلىٰ ثلاثةٍ مِنْكم.

  فقال الزُّبيرُ: جَعْلتُ أمرِي إلىٰ عَليٍّ([2]).

  وقال طلحةُ: جَعَلْتُ أمرِي إلىٰ عثمانَ.

  وقال سعدٌ: جَعَلْتُ أمري إلىٰ عبدِ الرحمـٰـنِ بنِ عوفٍ».

  وهكذا تَنَازَل ثلاثةٌ: تَنَازلَ طلحةُ، والزبيرُ، وسعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ.

  المُرَشَّحُون إذاً ثلاثة: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعُثْمانُ بنُ عَفَّان، وعبدُ  الرحمـٰـنِ بنُ عَوف. «فقال عبدُ الرحمـٰـنِ: أَيَّكُمُا تبَرَّأَ مِنَ هذا الأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِليهِ، واللهُ عَليهِ والإسلامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهَم في نَفْسِه، فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ، فقال عبدُ الرحمـٰـنِ بنُ عَوفٍ: أَفَتَجْعَلُونَه إِليَّ والله عَلَيَّ أَنْ لا  آلُو عن أَفَضَلِكُما. قالا: نَعَم. فأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهما، فقال: لَكَ قَرَابَةٌ من رسولِ  الله والقَدَمُ في الإسلامِ ما قد عَلِمْتَ، فاللهُ عليكَ لَئِن أمَّرتُك لَتَعْدِلَنَّ، ولئِن أَمَّرْتُ عثمانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ. ثم خَلا بالآخرِ [وهو عثمانُ] فقال له مثلَ ذلك. فلما أَخَذَ الميثاقَ قال: ارْفَعْ يَدَكَ يا عثمانُ فَبَايعَهُ، وبايعَ له عليٌّ، وَوَلَجَ أهلُ الدارِ فبايعوه»([3])

  هذه روايةُ البيعةِ لعثمانَ  رضي الله عنه كما في «صحيح البخاري».

  وهناك تفصيلاتٌ أُخْرىٰ في «الصحيحِ» أن عبدَ الرحمـٰـنِ بنَ عوفٍ جَلَسَ ثلاثةَ أيام يسألُ المهاجرينَ والأنصارَ حتىٰ قال  رضي الله عنه: «واللهِ ما تَرَكْتُ بَيْتاً من بيوتِ المهاجرينَ والأنصارِ إلا وَسألْتُهم، فما رَأَيتهُم يَعْدِلونَ بعثمانَ أحداً»([4]).

  أَيْ: أَنَّ هذا الأمرَ لم يَكُن مباشرةً في البيعةِ، وإنّما جَلَسَ بعد أن أَخَذَ العهدَ عليهما ثلاثةَ أيامٍ، ثم بعدَ ذلك اختارَ عثمانَ.

  ومِنَ المُحْزِنِ أَنَّنا نَرَىٰ كُتُبَ التاريخِ الحديثةَ التي تتكلمُ عن حياةِ الصحابةِ تُعرِضُ عن روايةِ البخاريِّ، وتأخذُ روايةَ أبي مِخْنَفٍ المَكذوبةَ في تاريخِ الطبريِّ، وهذا نَصُّها:

  لَمَّا طُعِنَ عمرُ بنُ الخطاب قِيلَ له: يا أميرَ المؤمنينَ لو استخْلفتَ، قال: مَنْ أَستخلفُ؟ لو كان أبو عبيدة بنُ الجرَّاحِ حَيّاً استخلفْتُهُ، فإن سألني ربّي قلتُ: سمعْتُ نبيَّكَ يقولُ: «إنه أمينُ هذهِ الأُمَّةِ».

  ولو كان سالمٌ مولىٰ أبي حُذيفةَ حيّاً اسْتَخْلَفتهُ، فإن سألني ربي قلتُ: سمعْتُ نبيكَ يقولُ: «إنّ سَالماً شديدُ الحُبِّ للهِ». فقال له رجلٌ: أَدُلُّكَ عليه؟ عبدُ  اللهِ بنُ عُمَرَ، فقال: قَاتَلَكَ  اللهُ، واللهِ ما أردتَ  اللهَ بِهذا، ويحَك كيف أستخلفُ رجلاً عَجَزَ عن طلاقِ امرأتهِ، لا أَرَبَ لنا في أموركِم، ما حَمَدْتُها فأرغبُ فيها لأحدٍ من أهلِ بيتي، إن كان خَيْراً فقد أصبْنَا منه، وإن كان شَرّاً فَشَرٌّ عَنّا([5]) آل عُمَرَ، بحسب آلِ عُمرَ أن يحاسَبَ منهم رجلٌ واحدٌ، ويُسألَ عن أمرِ أُمَّةِ مُحمدٍ، أمَا لَقَد جَهَدْتُ نفسي، وَحَرَمْتُ أهلي، وإن نجوتُ كَفَافاً لا وِزْرَ ولا أَجْرَ إني لسعيدٌ، وانْظرْ فإن استخلفْتُ فقد اسْتَخْلَفَ مَنْ هو خيرٌ مني ــــ يعني: أبا بكر ــــ، وإن أَتْرك فقد تَرَكَ مَنْ هو خيرٌ مني ــــ يعني: رسول  الله ــــ، ولَنْ يُضَيِّعَ  اللهُ دينَه.

  فَخَرَجوا ثم رَاحُوا فقالوا: يا أميرَ المؤمنين لو عَهِدْتَ عَهْداً؟ فقال: قد كنتُ أَجْمعتُ بَعْدَ مَقالَتي لكم أَنْ أَنظُرَ فَأُوَلّي رجلاً أَمْرَكُم هو أَحْراكُم أن يَحْمِلَكُم علىٰ الحَقِّ وأشارَ إلىٰ عليٍّ، وَرَهَقتْني غَشْيةٌ، فرأيْتُ رجلاً دَخَلَ جنةً قد غَرَسَها فجعلَ يَقْطِفُ كُلَّ غَضَّةٍ ويانِعَةٍ فَيَضُمه إليه ويُصَيِّره تحتَهُ، فعلمتُ أن  اللهَ غالبُ أمرِه ومتوفٍّ عُمَرَ، فما أريدُ أن أَتَحمَّلَها حيّاً وميتاً، عليكم هؤلاء الرَّهطِ الذين قال رسولُ  الله: «إنّهم من أهلِ الجَنَّة»: سعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمرو بن نفيل منهم، ولستُ مُدْخلُه، ولكنّ السِّتَّة: عليٌّ، وعثمانُ ابنا عبدِ مناف، وعبدُ الرحمـٰـنِ، وسعدٌ خالا رسولِ  الله، والزبيرُ بنُ العوام حواريُّ رسولِ  الله وابنُ عمتهِ، وطلحةُ الخيرِ ابنُ عبيدِ  الله، فَلْيختاروا منهم رَجُلاً، فإذا وَلَّوا وَالِياً فأحسِنوا مُؤازَرَته وأَعينوه، وإن ائتَمَن أحداً منكم فليؤّدِّ إليه أَمانَتَه.

  فخرجوا فقال العباسُ لعليٍّ: لا تَدْخُلْ معهم. قال: أكْرَهُ الخِلافَ. قال: إذاً ترىٰ ما تَكْرَه. فلمَّا أَصْبَح عمرُ دعا عَلِيّاً، وعثمانَ، وسعداً، وعبدَ  الرحمـٰـن بنَ عوفٍ، والزبيَر بنَ العوامِ، فقال: إني نظرتُ فوجدتُكُم رُؤَساءَ الناسِ وقادَتَهم، ولا يكونُ هذا الأمرُ إلا فيكم، وقد قُبضَ رسولُ  الله وهو عنكم راضٍ، إني لا أخافُ الناسَ عليكم إن استَقَمْتُم، ولكنِّي أخافُ عليكُم اختلافَكُم فيما بينكم فَيختلفُ الناسُ، فانهضُوا إلىٰ حجرةِ عائشةَ بإذنٍ منها فتشاوَروا واختاروا رجلاً منكم. ثم قال: لا تَدْخُلوا حجرةَ عائشةَ ولكن كونوا قَرِيباً ووضَعَ رأسَه وقد نَزَفَهُ الدمُ.

  فَدَخَلوا فتناجَوا ثُمَّ ارتَفَعَتْ أصواتهُم فقال عبدُ  الله بنُ عُمَرَ: سُبحانَ  الله إِنَّ أميرَ المؤمنين لم يَمُتْ بعدُ، فَأَسْمَعه فانتَبهَ، فقال: ألا أعرضوا عن هذا أجمعون، فإذا مِتُّ فتشاوَروا ثلاثةَ أيامٍ وليُصَلِّ بالناسِ صُهيبٌ، ولا يَأْتِيَنَّ اليومُ الرابعُ إلا وعليكم أميرٌ منكم، ويَحْضُرُ عبدُ  الله بنُ عُمَرَ مُشِيراً ولا شيءَ له من الأمرِ، وطلحةُ شَريكُكُم في الأمرِ، فإن قَدِمَ في الأيامِ الثلاثةِ فأحضِرُوه أَمْرَكم، وإن مَضَتِ الأيامُ الثلاثةُ قبل قُدُومه فاقْضُوا أَمْرَكم. مَنْ لي بطلحةَ؟ فقال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ: أنا لك به ولا يُخالفُ إن شاءَ  اللهُ، فقال عُمَرُ: أرجو أن لا يخالفَ إن شاءَ  اللهُ، وما أَظُنُّ أن يلي هذا الأمرَ إلا أحدُ هذين الرجُلين: عليٌّ، أو عثمانُ. فإن وَلِيَ عثمانُ فرجلٌ فيه لِينٌ، وإنْ وَلِيَ عليٌّ ففيه دعابةٌ، وأحرىٰ به أن يحملَهم علىٰ طريقِ الحقِّ. وإن تُولُّوا سَعْداً فأهلُها هو، وإلا فليستعِنْ به الوالي فإنّي لم أَعْزِلْه عن خيانةٍ ولا ضعفٍ، ونِعْمَ ذو الرأي عبدُ الرحمـٰـنِ بنُ عوفٍ، مُسَدَّدٌ رشيدٌ له مِنَ  اللهِ حافظٌ، فاسمعُوا منه. وقال لأبي طلحةَ الأنصاريِّ: يا أبا طلحةَ إن  اللهَ   طالما أعزَّ الإسلامَ بكم، فاخترْ خمسينَ رجلاً مِنَ الأنصارِ فاستحث هؤلاءِ الرهطَ حتىٰ يختارُوا رجلاً منهم.

  وقال للمقدادِ بنِ الأَسْودِ: إذا وَضَعْتُمُوني في حُفْرَتي فاجمعْ هؤلاءِ الرهطَ حتىٰ يختارُوا رجلاً منهم. وقال لصهيبٍ: صَلِّ بالناسِ ثلاثةَ أيامٍ، وأَدْخِلْ عَلِيّاً، وعثمانَ والزبيرَ، وَسَعْداً، وعبدَ الرحمـٰـنِ بنَ عوفٍ، وطلحةَ إن قَدِمَ، وأحضرْ عبدَ  اللهِ بنَ عُمرَ ولا شيءَ له مِنَ الأمرِ، وقُمْ علىٰ رُؤُوسِهم فإن اجتمعَ خمسةٌ ورضوا رجلاً وأبىٰ واحدٌ، فاشدخْ رأسَه، أوِ اضربْ رأسَه بالسيفِ.

  وإنِ اتفقَ أربعةٌ فرضُوا رجلاً منهم، وأبىٰ اثنانِ فاضربْ رُؤُوسَهمَا. فإن رَضِيَ ثلاثةٌ رجلاً منهم، وثلاثةٌ رجلاً منهم، فحكِّموا عبدَ  اللهِ بنَ عُمَرَ، فأيُّ الفريقينِ حُكِمَ له فَلْيَخْتارُوا رَجُلاً منهم، فإن لم يَرْضوا بحُكْمِ عبدِ  اللهِ بنِ عُمَرَ فَكُونُوا مع الذين فيهم عبدُ الرحمـٰـنِ بنُ عوفٍ، واقْتلُوا الباقين إن رَغِبُوا عما اجتمعَ عليه الناسُ([6]).

  قُلْتُ: هذه روايةُ أبي مِخْنَفٍ وفيها مخالفاتٌ ظاهرةٌ للروايةِ الصحيحةِ التي أخرجَها البخاريُّ، ثم فيها زياداتٌ منكرةٌ، منها: استباحةُ عُمَرَ دماءَ مَنْ قال هو عنهم: «إن رسولَ  اللهِ ماتَ وهو عنهم راضٍ»!!

  سبحانَ  اللهِ! كيفَ يَستحلُّ عُمَرُ  رضي الله عنه رقابَ أولئك الصحابةِ الأَجِلَّةِ: عثمانَ، وعليٍّ، وطلحةَ، والزبيرِ، وعبدِ الرحمـٰـن بنِ عوفٍ، وسعدِ بنِ أبي وقاصٍ، فهذا يُظهرُ لك كذبَ هذه الروايةِ، ثم مَن سَيَجْرُؤُ علىٰ التنفيذِ؟ وهل سَيُتْرَكُ؟ إنه التَّلفِيقُ، ولا شيءَ غيرُ التلفيقِ ثم التلميحِ بل التصريحِ بأن عليّاً هو الأحقُّ بالخلافةِ.

 

([1])    وكان عمرُ قد عزلَ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ عَنِ الكوفةِ.

([2])   هذه الروايةُ تُبيّنُ لنا حقيقةَ الأمرِ بصورةٍ دَامغةٍ، وهي أنّ الزُّبَـيْـرَ بنَ العَوَّامِ لَـمْ يكن من مُبغضي عَلِيٍّ، كيف وهو ابنُ عَمّتهِ صَفيّةَ، وقد رشَّحَهُ لِلخِلافَةِ كما هو ظاهرٌ من هذه الروايةِ.

([3])   أخرجه البخاري (٣٧٠٠).

([4])   أخرجه البُخَارِيّ (٧٢٠٧).

([5])   هكذا في الأصل، ولعلَّ معناهُ: فشَرٌّ يبعدُ عنّا.

([6])   «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (٣/٢٩٢).

([7])   أخرجه البُخَارِيّ (٣٦٩٧).

([8])   أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٢/١٣١٣٢)، والخلال في «السُّنّة» (ص٣٩٨) وابن أبي عاصم في «السُّنَّة» (٥٥٣) وقالَ مُحقّقُهُ العلَّامةُ الألبانيُّ: «إسنادُه صحيحٌ».

([9])   أخرجها الخلال في «السُّنّة» (ص٣٢٠).

([10]) أخرجه الخلَّالِ في «السُّنّة» (ص٣٢٠).