فتحُ تُسْترَ والسوس، وأَسْرُ الهرمزانَ (١٧هـ):

  سَببُها أنْ (يزدجردَ) مَلِكَ الفُرْسِ كانَ يُحرِّضُ أهلَ فَارِسٍ علىٰ العَرَبِ، حتّىٰ نقضوا العهودَ التي بينهم بعدَ (القادسيةِ) وغيرها مِنَ المعاركِ الصغيرةِ، وتعاقدوا علىٰ قتالِ المُسْلِمين، ولما بلغَ الخبرُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أمرَ سعدَ بنَ أبي وَقّاصٍ أنْ يبعثَ جَيْشاً إلىٰ (الأحوازِ) بإزاءِ الهرمزانَ، فبعثَ سعدٌ النُّعْمَـانَ بنَ مُقَرِّنٍ، فَلمَّـا وصلَ النُّعْمَـانُ إلىٰ (رَامَهْرُمْزَ) خرجَ إليه الهُرمزانُ، وتقاتلَ معه فهُزِمَ الهرمزانُ وفرَّ إلىٰ (تستر) ولَحِقَ به المُسْلِمونَ حتّىٰ حاصروه هناك، وكثر القتلُ مِنَ الفريقينِ حتّىٰ قالَ المُسْلِمونَ للبَرَاءِ ــــ وكانَ مُجَابَ الدعوةِ([1]) ــــ: يا بَراءُ! أَقْسِمْ علىٰ رَبِّكَ لِيهزمَنّهم لنا. فقالَ: اللَّهُمَّ اهزمْهُم لنا واستشهدني. وكانَ البراءُ يومئذٍ قتلَ أكثرَ مِن مئةِ رَجلٍ مُبارزةً. فهزمَ  اللهُ الهرمزانَ وقومَهُ حتّىٰ ضاقتْ عليهم بلادُهم، وطلبَ رجلٌ مِنَ الفُرْسِ الأمانَ مِن أبي مُوسَىٰ الأشعريِّ، فأعطاهُ الأمانَ، فصارَ يَدُلُّ المُسْلِمينَ علىٰ مكانٍ يدخلونَ منه إلىٰ البلدةِ، وهو مَدخلُ الماءِ إليها، فندبَ الأمراءُ النَّاسَ إلىٰ ذلك، فانتدب جماعةٌ مِنَ الشجعانِ، فدخلوا مع الماءِ وذلك في الليلِ، وجاؤوا إلىٰ البوابينَ فقتلُوهم وفتحوا الأبوابَ، وكَبَّرَ المُسْلِمونُ فدخلوا البلادَ وذلك قريباً مِن وقتِ الفجرِ، وانشغلوا بالقتالِ حتّىٰ طلعتْ عليهمُ الشَّمْسُ ولَـمْ يصلّوا الفجرَ.

  قالَ أَنَسٌ: حَضَرْتُ عندَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ (تُسْتَرَ) عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا علىٰ الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بعدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ معَ أبي مُوسَىٰ، فَفُتِحَ لَنَا. وَقالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا([2]).

  وفَرَّ الهرمزانُ إلىٰ (القلعةِ) فتبعهُ جماعةٌ مِنَ الأبطالِ، فصار يَرمي بالسهامِ، فأصابَ البَراءَ بنَ مَالكٍ ومَجْزَأَةَ بنَ ثَوْرٍ فقتلهمـا. وقالَ لهمُ الهرمزانُ: إنَّ معي مئةَ سهمٍ، وإنه لا يتقدمُ إليَّ أحدٌ منكم إِلَّا رميتُهُ، فمـا ينفعُكم أَسري إذا قتلتُ منكم مئةَ رجلٍ؟ قالوا: فمـاذا تريدُ؟ قالَ: تأمِّنوني حتّىٰ أُسلِّمَكم يدي، فتذهبوا بي إلىٰ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ فيحكمَ فيَّ بمـا شاءَ. فأجابوه إلىٰ ذلك. ولما وصلوا المدينةَ، قصدوا مَنزِلَ عُمَرَ فلم يجدوه، وأخبروهم أنه في المسجدِ، فَلمَّـا قصدوا المسجدِ وجدوه نائمًـا في ناحيةٍ منهُ. فقالَ الهرمزانُ: أين عُمَرُ؟ فأشاروا إليه وخفضوا أصواتَهم حتّىٰ لا يُوقِظُوهُ. فقالَ: أين حُجَّابُهُ وأين حَرسُهُ؟ قالوا: ليس له حاجبٌ ولا حارسٌ.

  فاستيقظ عُمَرُ من أصواتِهم واستوىٰ جَالِساً، فقيل له: هذا الهرمزانُ. فقالَ عُمَرُ: ما حُجَّتُكَ وما عُذْرُكَ في نقضِكَ العهدَ مرةً بعدَ مرّةٍ؟ فقالَ الهرمزانُ: أخافُ أنْ تَقتلَني قَبْلَ أنْ أُخْبِرَكَ. قالَ: لا تخفْ ذلك. فطلبَ الهرمزانُ الماءَ لِيَشْرَبَ، فأتي بالماءِ، فأخذَهُ وجعلتْ يَدُهُ تَرعَدُ، وقالَ: إني أخافُ أنْ أُقْتَلَ وأنا أشربُ. فقالَ عُمَرُ: لا بأسَ عليك حتّىٰ تشربَ. فألقىٰ القَدحَ والماءَ فيه ولَـمْ يشربْ. فقالَ عُمَرُ: احضروا له ماءً ولا تجمعوا عليه القتلَ والعطشَ. فرفضَ أنْ يشربَ الماءَ.

  فقالَ له عُمَرُ: إني قاتلُكَ. فقالَ الهرمزانُ: إنك أَمَّنتني حتّىٰ أشربَ ولَـمْ أشربْ بعدُ. فقالَ أنسُ بنُ مَالِكٍ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فقالَ عُمَرُ: ويحكَ يا أنسُ، أنا أُؤمِّنُ مَنْ قتل مَجْزَأةَ والبراءَ؟! ثُمَّ أقبلَ عُمَرُ علىٰ الهرمزانَ وقالَ له: خدعتني واللهِ لا أنخدعُ إِلَّا أنْ تُسْلِمَ. فأسلمَ الهرمزانُ. ولما قيلَ له: لِمَ لَـمْ تُسْلِمْ مِنْ قَبْلُ. قالَ: خشيتُ أنْ يقالَ أسلَمَ خَوْفاً مِنَ السَّيْفِ([3]).

 

([1])    عُرِفَ أنه مُجَابُ الدعوةِ مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ أنَّ رَسُولَ  الله  ﷺ قالَ: «كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَىٰ  الله لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ». أخرجه التِّرمذِيّ (٣٨٥٤) وقالَ: «حَسَنٌ».

([2])   أخرجه البُخَارِيُّ مُعَلّقاً، كتاب الخوف، باب الصَّلاة عند مناهضة الحصون (٩٤٥).

([3])   «تاريخ الطبري» أحداث سنه ١٧هـ وانظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي أحداث سنة ٢٠هـ، غزوة تستر.