سَقِيفَةُ بَني سَاعِدَةَ
19-03-2023
المبحث الأول
سَقِيفَةُ([1]) بَني سَاعِدَةَ
في هذه الفترةِ التي انشغلَ فيها عَلِيٌّ، والعَبَّاسُ، والفضلُ بتَجهيزِ رَسُولِ الله اجتمعَ بعضُ الأنصَارِ في سَقِيفَةِ بَني سَاعِدَةَ، وسأذكرُ هذه الروايةَ مِن «تَاريخِ الإمامِ الطَّبَرِيِّ» أولاً مِن رِوايةِ أبي مِخْنَفٍ الكَذَّابِ، ثُمَّ أذكرُها مِن رِوايةِ الإمامِ البُخَارِيِّ، ثُمَّ نقارنُ بينَ الروايتيْنِ حتّىٰ نعرفَ الزياداتِ التي زادَها أبو مِخْنَفٍ.
ولعلَّ كثيراً مِن هذه الزياداتِ الآنَ عندَ الكثيرينَ أُمورٌ مُسلّمةٌ، ومثل هذا سيأتينا أيضاً في حَادِثتي الشُّورَىٰ والتحكيمِ.
قالَ الإمامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: حدثنا هشامُ بنُ مُحَمَّدٍ، عن أبي مِخْنَفٍ قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بنُ عبدِ الرحمـٰـنِ بنِ أبي عَمْرةَ الأنصَاريُّ؛ أنَّ النَّبِيَّ لمّا قُبِضَ، اجتمعتِ الأنصَارُ في سَقِيفَةِ بَني سَاعِدَةَ فقالوا: نُوَلِّي هــذا الأمـرَ بعدَ مُحَمَّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ سعــدَ بنَ عُبادةَ، قامَ أحدُهم، فقالَ: قد دَانتْ لكمُ العَرَبُ بأسيافِكم، وتُوفِّيَ رَسُولُ الله وهو عنكم رَاضٍ، وبكم قَريرُ عَيْنٍ، استَبِدُّوا بِهذا الأمرِ دونَ النَّاسِ. فأجابهُ الجميعُ: أنْ قد وُفّقْتَّ في الرّأيِ. فقالَ قائلٌ منهم: فإنْ أَبَتْ مهاجرةُ قُرَيْشٍ؛ نقولُ: منكم أميرٌ ومِنَّا أميرٌ. فقالَ سَعدُ بنُ عُبادةَ: هذا أوّلُ الوَهَنُ. ثُمَّ بلغَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ([2]) أنَّ بعضَ الأنصَارِ اجتمعوا في سَقِيفَة بَني سَاعِدَةَ يقولون: منا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فذهبَ إلىٰ أبي بَكْرٍ فأخبرَهُ، فقالَ: إنَّ إخوانَنا الأنصَارَ اجتمعوا ويقولونَ كذا، فهلمَّ بنا إليهم.
فخرج عُمَرُ وأبو بَكْرٍ فوجدا أبا عُبَيْدَةَ فقالا: معنا. فذهب الثلاثةُ إلىٰ الأنصَارِ. يقولُ عُمَرُ: فَزَوَّرْتُ كَلاماً في نفسي([3])، فَلمَّـا أردتُ أنْ أتكلّمَ، أشارَ إليَّ أبو بَكْرٍ: أنِ اسْكُتْ.
فبدأ أبو بَكْرٍ فحمِدَ اللهَ وأثنَىٰ عليه. ثُمَّ قالَ: إنَّ اللهَ بعثَ مُحَمَّداً... وذكرَ خطبةً طويلةً لأبي بَكْرٍ، وذكرَ منها أنَّ المهاجرينَ أَوْلَىٰ بالخِلافَةِ.
فقالَ الْحُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ: يا معشرَ الأنصَارِ! املِكوا عليكم أمرَكم، فإنَّ النَّاسَ في فَيْئِكم، وفي ظِلِّكُم، ولنْ يجترئَ مُجترئٌ علىٰ خِلافِكم، ولن يَصدُرَ النَّاسُ إلَّا عن رأيكم أنتم أهلُ العِزِّ والثَّروةِ، وأولو العَدَدِ والمَنعَةِ، فإنْ هم أَبوا عليكم ما سألتموه؛ فأجْلُوهم عن هذه البلادِ، وتولّوا عليهم هذه الأُمُورَ، فأنتم والله أحقُّ بِهذا الأمرِ منهم، فإنه بِأَسْيَافِكُمْ دانَ ِهذا الدينِ مَنْ دانَ ممن لَـمْ يكن يَدينُ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب([4]).
فقالَ عُمَرُ وأبو عُبَيْدَةَ لأبي بَكْرٍ: ابسطْ يَدَكَ نُبَايِعكَ، فَلمَّـا ذهبا ليُبَايعَاهُ، سبقهما إِلَيْهِ بشيرُ بنُ سعدٍ فبايَعهُ، قالَ: فقامَ أسيدُ بنُ حضيرٍ ــــ وكانَ أحدَ النُّقَبَاءِ ــــ فقالَ: «والله! لَئِنْ وَلِيَتْها عليكمُ الخزرجُ مرةً لا زالتْ لهم عليكم بذلك الفضيلةُ»([5]). فقالَ سعدٌ: «أما والله! لو أنَّ بي قوةً ما أقوىٰ علىٰ النهوضِ، لسمعتَ مني في أقطارِها وسككِها زَئِيراً يَجرحُكَ وَأَصْحَابَكَ، أما والله! إذنْ لأُلحقَنَّكَ بقومٍ كنتَ فيهم تَابِعاً غيرَ متبوعٍ، احْمِلُونِي من هذا المكانِ». فحملوه فأدخلوه في دَارهِ، فترك أَيَّاماً رضي الله عنه ثُمَّ قالَ: «أما والله! حتّىٰ أرميَكم بمـا في كِنانتي مِن نَبلي، وأخضبُ سِنانَ رُمحي، وأضربَكُم بسيفي ما ملَكَتْهُ يدي، وأقاتلَكم بأهلِ بيتي، ومَنْ أطاعني مِن قومي». فكان سعدٌ بعدَ ذلك لا يصلي بصلاتِهم، ولا يُجمّعُ معهم([6])، ويحجُّ ولا يفيضُ معهم بإفاضتِهم، فلم يَزلْ كذلك حتّىٰ هلكَ أبو بَكْرٍ رحمه الله تعالىٰ([7]).
هذه روايةُ أبي مِخْنَفٍ لقِصّةِ السَّقِيفَةِ، ونوردُ الآنَ روايةَ الإمامِ البُخَارِيِّ لِهذه القِصَّةِ نفسِها ونقارنُ:
قالَ الإمامُ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الله، قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ الله مَاتَ... وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ إِلَىٰ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فذهَبَ إِلَيْهِمْ أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وأبو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أبو بَكْرٍ.
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: واللهِ مَا أَرَدْتُ بذلك إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَاماً قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أبو بَكْرٍ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ أَبْلَغُ النَّاسِ، فقالَ في كَلَامِهِ: نَحْنُ الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ.
فقالَ حُبَابُ بنُ المُنْذِرِ: لَا واللهِ لَا نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فقالَ أبو بَكْرٍ: لَا، ولَكِنَّا الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَاراً، وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَاباً، فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ. فقالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ؛ فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَىٰ رَسُولِ الله. فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ. فقالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. فقالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللهُ([8]).
هذه روايةُ الإمامِ البُخَارِيِّ، وهي ــــ كما نرىٰ ــــ مختصرةٌ وقصيرةٌ، وهذه حقيقةُ السَّقِيفَةِ. أما ما زادَهُ أبو مِخْنَفٍ من (أنَّ سعدَ بنَ عُبادةَ قالَ: أقاتلُكم، وكانَ لا يصلي معهم، ولا يُجمّعُ بجمعتِهم، ولا يفيضُ بإفاضتِهم، وأنَّ الْحُبَابَ بْنَ المُنْذِرِ رَدَّ علىٰ أبي بَكْرٍ) وغير ذلك من الزياداتٍ؛ فكلُّ ذلكَ أباطيلٌ لا تثبتُ.
فقِصّةُ السَّقِيفَةِ لَـمْ تستغرقْ نِصْفَ الساعةِ في ظاهرِها، وانظرْ كيف أصبحتِ الروايةُ أكبرَ مما هي عليه.
وأما ما يَتعلَّقُ بسَعدِ بنِ عُبَادةَ؛ فقد أخرج أحـمدُ في «مسنده» عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: «... فَتَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً أُنْزِلَ في الأَنْصَارِ وَلَا ذَكَرَهُ رَسُولُ الله مِنْ شَأْنِهِمْ إِلَّا وَذَكَرَهُ».
وَقالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ الله قالَ: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِياً سَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ». وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ الله قالَ ــــ وَأَنْتَ قَاعِدٌ ــ: «قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ». فقالَ لَهُ سَعْدٌ: «صَدَقْتَ نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمُ الأُمَرَاءُ»([9]).
هذه الروايةُ أخرجَها أحـمدُ في «مسندهِ» بِسَنَدٍ صَحيحٍ مُرْسَلٍ مِن رِوايةِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عوفٍ رضي الله عنه ورحمهُ.
وهي وإنْ كانت مُرْسلةً، إلَّا أنها أقوىٰ بكثيرٍ مِن رِوايةِ ذلك الكَذَّابِ أبي مِخْنَفٍ.
([1]) السقيفة: هي مكان اجتماعهم بمثابة المجالس والديوانيَّات الآن.
([2]) بلَّغَهُ أحدُ الأنصَارِ.
([3]) أَيْ: جَهّزتُ كَلاماً في نفسي.
([4]) هذه تعني: أنا أولىٰ بها من غيري، و(الجذيل المحكك): هو العمودُ الذي كانَ يوضعُ للإبلِ التي كانت يصيبُها الجربُ فتتحككَ فيه حتّىٰ تشفَىٰ من هذا الجربِ، و(عذيقها المرجب): هو عذقُ النخلةِ الذي يرجىٰ. انظر: «النهاية في غريب الحديث» (٢/١٩٧).
([5]) يعني: أنّ أسيدَ بنَ حضيرٍ حسدَ سعدَ بنَ عُبادةَ مِنَ الخزرجِ.
([6]) أي: لا يصلي صلاة الجمعة معهم.
([7]) «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (٢/٤٥٥) بتصرفٍ لطولها.
([8]) أخرجه البُخَارِيّ (٣٦٦٧، ٣٦٦٨).
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمه الله: «قَوْلُهُ: (فقالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ)» أَيْ: كِدْتُمْ تَقْتُلُونَهُ، وقِيلَ: هو كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالْخِذْلَانِ. وَيَرُدُّهُ ما وَقَعَ في رِوَايَةِ مُوسَىٰ بْنِ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: «فقالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَبْقُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَا تَطَئُوهُ.
فقالَ عُمَرُ: اقْتُلُوهُ قَتَلَهُ اللهُ». نَعَمْ لَمْ يُرِدْ عُمَرُ الْأَمْرَ بِقَتْلِهِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «قَتَلَهُ اللهُ» فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وهو مشهور في كلام العرب ومنه قوله تعالىٰ: ﴿قُتِلَ ٱلْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ١٧﴾ [عبس: ١٧]. وعلَىٰ الْأَوَّلِ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ إِهْمَالِهِ وَالْإِعْرَاضِ عنهُ. وفي حَدِيثِ مَالِكٍ: «فَقُلْتُ وَأَنَا مُغْضَبٌ: قَتَلَ اللهُ سَعْداً فَإِنَّهُ صَاحِبُ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ» اهـ «فتح الباري» (٧/٣٨٤) دار الفكر.