البابُ الأَوَّلُ

الأَحْداثُ التَّارِيخِيَّةُ مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ إلىٰ سَنَةِ ٦١هـ.

 

تمهيد
بعثة الرسول

  في يومِ الإثْنَيْنِ الثَّانِي عشرَ من رَبيعٍ الأوّلِ([1]) امْتَنَّ  اللهُ تباركَ وتعالىٰ علىٰ البَشَريّةِ أجمعَ بولادةِ سَيِّــــدِ البَشَريّةِ([2])، وهاديها، وهو مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ  الله بنِ عبدِ المُطَّلبِ الهَاشِمِيُّ القُرَشِيُّ، وُلِدَ يَتيمَ الأَبِ، وعاشَ بعدَ السادسةِ يِتيمَ الأُمِّ والأَبِ، إِذْ ماتَ أبوه وهو في بَطْنِ أُمِّهِ، ومَاتتْ أُمُّهُ وهو في السّادسةِ مِن عُمُرِهِ، فَكَفلَهُ جَدُّهُ عبدُ المُطَّلبِ، ولكنّه ماتَ بعدَ سنتينِ، فَكَفلَهُ عَمُّهُ أبو طَالبٍ.

  ولما بلغَ الأربعينَ مِن عُمُرِهِ بَعَثَهُ  اللهُ مُبَشِّراً وَنَذِيراً، فقامَ برسَالتهِ خيرَ قيام، وبلّغَ ما أَمرَهُ به رَبُّهُ أنْ يُبلِّغَهُ، ليُخرجَ النَّاسَ مِنَ الظلمـاتِ إلىٰ النُّورِ، فعاداهُ كُبراءُ قَومِهِ، وآذوْهُ، وآذوْا مَنْ تَبِعَهُ مِنَ النَّاسِ، وقد تَبِعَهُ أقوامٌ بَاعوا الدنيا واشتروا الآخرةَ، وجاهدوا في سَبيلِ  الله بأموالِهم وأنفسِهم، ونصروا  اللهَ ورَسُولَهُ، قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ ٱلْمُهَاجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ٨﴾ [الحشر: ٨].

  واستمرَّ في دعوتهِ زُهَاءَ ثلاثَ عشرةَ سنة حتّىٰ أمرَهُ  اللهُ بالهجرةِ إلىٰ المدينةِ التي نوّرَها  اللهُ تباركَ وتعالىٰ برَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وهاجرَ معه أَصحابُهُ، وتَركوا الأموالَ والأولادَ والدُّورَ، وذلك في سَبيلِ  الله تباركَ وتعالىٰ، ولمّا وصلَ إلىٰ المدينةِ، آوَاهُ أَهلُها، ونَصرُوهُ، وعَزّروهُ، وعادوا النَّاسَ كُلَّهم لأجلهِ، وواسوا المهاجرينَ بأموالِهم ودُورِهم، بل وأزواجِهم، فكان الأنصَاريُّ الذي له زَوجتانِ يقولُ للمهاجرِ: اخترْ أيهما شِئْتَ أُطلّقها فتتزوجها([3])؛ ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّؤُوا ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ٩﴾ [الحشر: ٩].

  واستمرَّ النَّبِيُّ في دَعوتهِ حتّىٰ شَملتِ الجزيرةَ كُلَّها، إلىٰ أنْ جَاءَ اليومُ العظيمُ الذي فَتَحَ  اللهُ فيه لرَسُولِهِ مَكَّةَ المكرمةَ، ودخل أهلُها في الإسلامِ، ودَانتْ بعدَ ذلك الجزيرةُ العَرَبيةُ كُلُّها لرَسُولِ  الله.

  وبعدَ ثَلاثٍ وعشرينَ سنةً مِنَ الدَّعوةِ والجهادِ، جاءَ القَدَرُ المحتومُ المُصَدِّقُ لقولهِ تعالىٰ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ ١٤٤﴾ [آل عمران: ١٤٤].

  وكأنمـا أَظلمتِ الدنيا عندَ هذا الحادثِ الجَلَلِ، وكيف لا يكونُ كذلكَ والرَّسُولُ يقول: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي؛ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ المَصَائِبِ»([4]). فلم يُصَبِ العَالَمُ منذُ خَلَقَ  اللهُ الخلِيقةَ بمُصيبةٍ أعظمَ مِن مُصيبةِ مَوتِ رَسُولِ  الله.

  فهذه فَاطِمَةُ بنتُ النَّبِيِّ لمّا ماتَ قالتْ: «يَا أَبَتَاهْ أَجَابَ رَبّاً دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ في جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهْ إلىٰ جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ»([5]).

  وهذا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يقولُ: «لمّا كانَ الْيَوْمُ الذي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ  الله المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلمَّـا كانَ الْيَوْمُ الذي مَاتَ فيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ  الله الأَيْدِي ــــ وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ ــــ حتّىٰ أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا»([6]).

  وهذا أبو بَكْرٍ يقولُ لِعُمَرَ بعدَ وفَاةِ النَّبِيِّ: «انْطَلِقْ بِنَا إلىٰ أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَـا كَانَ رَسُولُ  الله يَزُورُهَا، فَلمَّـا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فقالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ! مَا عِنْدَ  الله خَيْرٌ لِرَسُولِهِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي ألا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ  الله خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَـاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا علىٰ الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا»([7]).

  وهكذا انتقلتْ هذه النسمةُ الطَّيبةُ إلىٰ بارئِها، وبقي دينُ  الله في الأرضِ.

 

([1])    هناك اختلافٌ في تحديدِ يومِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ  ﷺ.

([2])   قالَ رَسُولُ  الله  ﷺ: «أنا سيدُ وَلَدِ آدمَ يَومَ القيامةِ ولا فَخْرَ» أخرجه أحـمد (٣/٢) وابن ماجه برقم (٤٣٠٨) وصححه الألباني في (صحيح السنن).

([3])   راجع: «صحيح البخاري» (٣٧٨١).

([4])   أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرىٰ» (٢/٢٧٥)، وصحّحهُ العلَّامةُ الألبانيُّ في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» رقم (١١٠٦).

([5])   أخرجه البُخَارِيّ (٤٤٦٢).

([6])   أخرجه الترمذي (٣٦١٨)، وابن ماجه (١٦٣١).

([7])   أخرجه مُسْلِم (٢٤٥٤).