قصة الغرانيق([1])

قال الله عز وجل في سورة النجم: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ ٱللَّاتَ وَٱلْعُزَّى وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلْأُخْرَى﴾  [النجم: 19-20]، هذه الآيات لما نزلت على نبينا ﷺ تلاها على المسلمين والمشركين، فزعموا أن الشيطان أوحى على لسان النبي ﷺ بعد أن تلا هاتين الآيتين أنه قال: (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى)، وأنه لما سمع بهذا النبي ﷺ شقَّ عليه ذلك، فأنزل الله عز وجلعز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾  [الحج: 52 ــ 53].

وذكر ابن العربي رحمه الله عند تفسر هذه الآية عشرة مقامات([2])، فمن ذلك:

أولاً: أن النبي ﷺ إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به، حتى يتحقق أنه رسول من عنده، ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري أملك هو أم إنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاماً، وبلغت إليه قولا لم يصح له أن يقول: إنه من عند الله، ولا ثبت عندنا أنه أمر الله، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها، أو يتشبه بها ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلاً من حقيقة.

ثانياً: أن الله قد عصم رسوله من الكفر، وآمنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه وإطباقهم عليه، فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله، أو يشك فيه طرفة عين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

ثالثاً: أن الله قد عرَّف رسوله بنفسه، وبصَّرَه بأدلته، وأراه ملكوت سماواته وأرضه، وعرفه سنن من كان قبله من إخوته، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، ومن خطر له ذلك؛ فهو ممن يمشي مُكباً على وجهه، غير عارف بنبيّه ولا بربه.

رابعاً: كيف خفي على النبي ﷺ هذا الكفر الذي لا يجوز وروده من عند الله، ولو قاله أحد لتبادر الكل إليه بالإنكار والردع والتثريب والتشنيع.

وقد رويت هذه القصة بأسانيد لا تثبت، فما من طريق إلا روي مرسلاً أو معضلاً أو موضوعاً، سواء كان هذا موصولاً أو غير موصول، وروي هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً، وروي مرسلاً وموصولاً، حتى قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً»([3])، إلا أن جمهور المفسرين والمحدثين ذهبوا إلى نفي صحتها، وقد تعقبه غير واحد من أهل العلم.

ويتلخص الجواب عن هذه القصة بما يلي:

أولاً: من جهة المتن؛ فقد وقع في سياقه وألفاظه اضطراب، مما يجعل النفس لا تطمئن لقبول هذه القصة، وقد سئل إمام الأئمة ابن خزيمة عنها فقال: «هذا من وضع الزنادقة».

ثانياً: أنها تعارض الرواية الصحيحة التي رواها البخاري في صحيحه: أن النبي ﷺ قرأ سورة النجم ثم سجد، فسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيها ذكر للغرانيق.

ثالثاً: أنها تخالف صريح آيات القرآن التي تنص على أن الله عز وجل لم يجعل للشيطان سلطاناً على النبي ﷺ، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾  [الحِجر: 42]، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾  [النحل: 99-100]، وأي سلطان أعظم من أن يلقي الشيطان على لسان رسوله ﷺ هذه العبارة الشركية الصريحة.

وكذلك تخالف صريح الآيات الدالة حفظ الذكر وصيانته من التحريف والتبديل، والزيادة والنقص، كقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾  [الحِجر: 9]، وقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾  [فصلت: 41-42]، وقوله تعالى : ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ ٱلْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾  [النجم: 3-4].

رابعاً: قد قام الدليل القطعي، وانعقد الإجماع على عصمة النبي ﷺ من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً ولا سهواً، أو أن يتقول على الله لا عمداً ولا سهواً ما لم ينزل عليه، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾  [يونس: 15].

خامساً: إن سياق الآيات من سورة النجم فيه قرينة واضحة على بطلان هذه الرواية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ ٱللَّاتَ وَٱلْعُزَّى وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلْأُخْرَى أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾  [النجم: 19-22]، فلا يستقيم السياق الذي يذم آلهة المشركين في أربع آيات متعاقبة، ثم يمدحها بعد ذلك! وهذا يُنزه عنه كلام البشر، فكيف بكلام الله جل وعلا الذي هو أفصح الكلام وأوضحه.

سادساً: من المعلوم أن مشركي قريش كانوا أحرص الناس على دفع نبوته ﷺ ودحض حجته، والتشكيك في رسالته، والبحث عن أي مدخل يمكن أن ينفذوا من خلاله، ولو صحت هذه القصة لكانت مستمسكاً لهم لفتنة كثير ممن أسلم.

سابعاً: قبول هذه القصة يستلزم قبول المؤمنين الشرك من النبي ﷺ بعد أن دعاهم إلى التوحيد، فكأنه نقضٌ لدعوته، وحاشاه عن ذلك.

ثامناً: أنكر هذه القصة جمع من أهل العلم، كابن حزم ، والقاضي عياض، وابن كثير، والشوكاني، وغيرهم.

ويبقى السؤال: لماذا سجد المسلمون والمشركون كذلك؟

أما سجود المسلمين فإنه اقتداء بنبيهم، وأما سجود المشركين فيجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة([4]).

 

([1])             أخرج هذه القصة ابن جرير الطبري في «جامع البيان» (18/633، 666)، وابن سعد في «الطبقات» (1/205). وللتوسع في معرفة طرق الرواية ينظر: «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» للألباني، «التحقيق في قصة الغرانيق» للقصير.

([2])            انظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (3/304 ــ 307).

([3])            «فتح الباري» (8/439).

([4])            انظر: «روح المعاني» للآلوسي (9/174).