اسمه ونسبه 

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.

وفهرٌ هذا هو قريش، فكل قرشي فهري، وهو ﷺ مضري أي يرجع نسبه إلىٰ مضر ثمّ إلىٰ عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام.

قال رسول الله ﷺ: «إن الله اصطفىٰ كنانة من ولد إسماعيل، واصطفىٰ قريشاً من كنانة، واصطفىٰ من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»([1]).

وجَدُّ النبي ﷺ الخامس عبد مناف، وكان علىٰ المشهور له أربعة من الولد، وهم هاشم، المطلب، عبد شمس، ونوفل. فرسولنا ﷺ يرجع نسبه إلىٰ هاشم، وهاشم هذا اسمه عمرو، ولُقِّبَ بهاشم لأنه كان يهشم الخبز؛ أي: يكسره ويقطعه ويقدمه للحجاج. وهو أول من أطعم الثريد للحجاج، والثريد هو الخبز مع اللحم، وهو كذلك أول من سنّ الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف. قال الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

                                      ورجال مكة مُسْنتون عِجاف

سُنَّت إليه الرحلتان كلاهما          

                                     سَفَرُ الشتاء ورحلَةُ الأصياف

وأولاد هاشم: عبد المطلب، وأسد، وعمرو، ونضلة. وتزوج هاشم من بني النجار من أهل المدينة، وعبد المطلب لَقَب كذلك، واسمه شيبة الحمد وإنما لُقِّب بعبد المطلب لأنه كان عند أخواله بني النجار في المدينة لما توفي والده، فذهب المطلب أخو هاشم إلىٰ المدينة وأتىٰ بابن أخيه ليكون عند أعمامه، فلما دخل به مكة ظن أهل مكة أنه عبد اشتراه المطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فقال لهم المطلب: لا، إنما هو ابن أخي هاشم. فغلب عليه ذلك اللقب، وصار لا يُسمىٰ إلا بعبد المطلب.

وعبد المطلب جد النبي ﷺ وقعت في زمنه حادثتان لم يغفلهما التاريخ:

الحادثة الأولىٰ: حفر زمزم، خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كان قد تزوج سارة، ولكنه لم يُرزق منها بولد، فأَهدَتْ سارة جارية لها اسمها هاجر، فولدت له إسماعيل، ثم وقعت الغيرة في قلب سارة، وطلبت من إبراهيم عليه السلام أن يبعدها عنها، فانطلق بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء إلى مكة المكرمة وتركهما هناك، فاتبعته أم إسماعيل حتىٰ لما بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلىٰ من تتركنا؟ قال: إلىٰ الله. قالت: رضيت بالله.

فرجعت وظلت في مكة مع ولدها إسماعيل حتى فَنِيَ الماء فقالت: لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً. قال: فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت هل تحس أحداً فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت أتت المروة. ففعلت ذلك أشواطاً ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل ــ تعني الصبي ــ فذهبت فنظرت فإذا هو علىٰ حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتىٰ أتمت سبعاً. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه علىٰ الأرض، فانبثق الماء، فدُهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر. قال أبو القاسم ﷺ: «لو تركته كان الماء ظاهراً». فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها علىٰ صبيها.

فمَرَّ ناسٌ من قبيلة جُرْهُم ببطن الوادي، فإذا هم بِطَيْرٍ كأنهم أنكروا ذاك وقالوا: ما يكون الطير إلا علىٰ ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هم بالماء، فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك، أو نسكن معك.

ولما بَلَغَ إسماعيل مبلغ الرجال تزوج امرأة منهم، ثم إن إبراهيم قال لسارة: إني مطلع تركتي، فجاء فسلم فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد قال: قولي له إذا جاء غيِّر عتبة بابك. فلما جاء أخبرته، فقال: أنت ذاك، فاذهبي إلىٰ أهلك.

قال: ثم إنه بدا لإبراهيم أن يزورهم بعد أن تزوج إسماعيل. فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. فقال أبو القاسم ﷺ: «بركة بدعوة إبراهيم».

ثم إنه بدا لإبراهيم أن يزورهم مرة رابعة([2])، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له. فقال: يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتاً. قال: أطع ربك. قال إبراهيم: إنه قد أمرني أن تعينني عليه. قال: إذاً أفعل أو كما قال. فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127]([3]).

ثم مرَّت السنون تلو السنين حتىٰ خَفِيتْ معالم زمزم، وقد ذُكر أَنَّ عبد المطلب كان نائماً يوماً ما، فرأىٰ في المنام أنه يؤمر بحفر زمزم، ودُلّ علىٰ مكانها في النوم، فقام إلىٰ المكان الذي أُمر في المنام بحفره، فحفره ووجد الماء، ثمّ أقام بعد ذلك سقاية الحاج.

الوقعة الثانية: مجيء أبرهة الحبشي لهدم الكعبة، وقصة أبرهة كما ذكرها أهل العلم هي:

بَنَىٰ أبرهة الحبشي كنيسة عظيمة بصنعاء، لم يُر في زمانها مثلها، وكتب إلىٰ النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبن مثلها لملك قبلك ولست بمنته حتىٰ أصرف إليها حج العرب([4])، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة إلىٰ النجاشي، غضب رجل من كنانة، فخرج حتىٰ دخل الكنيسة في وقتٍ لم يَرَهُ فيه أحد، فجاء وأحدث في الكنيسة([5])، فلما أُخبر أبرهة بذلك، قال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة، لما سمع بقولك إنك تريد أن تصرف حج العرب إلىٰ بيتك هذا، فغضب غضباً شديداً، وقال: لأهْدِمَنَّ الكعبة.

وهنا لابد من التنبيه علىٰ نقطة مهمة، وهي أنه لاشك أن هذا الرجل سمع بمنكر، وهو أن أبرهة أراد أن يصرف حج العرب من مكة إلىٰ هذه الكنيسة، فغضب لأجل هذا الأمر، فأنكر ذلك المنكر بأن لَطَّخ الكنيسة بالعذرة، وهذا في مقابله أوجد عند أبرهة غضباً شديداً، فعزم بعد ذلك علىٰ هدم الكعبة.

وقد نص أهل العلم علىٰ أنه لا يجوز إنكار المنكر بإيقاع منكرٍ أعظم منه، بل لابد أن يكون إنكار المنكر بحيث أن لا يقع بعد ذلك أو علىٰ إثره منكر أعظم منه.

غضبَ أبرهة لهذا الفعل، وحلف لَيَسِيرنّ إلىٰ البيت حتىٰ يهدمه، ثمّ أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، وسار بستين ألفاً، وأخرج معه الفيلة والعرب لا تعرف الفيلة في ذلك الوقت، ويذكر أن رئيس الفيلة فيل يسمونه «محموداً».

فلما تجهز وسار سمع العرب بذلك، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا أن قتاله حق عليهم، وهم وإن كانوا علىٰ الشرك لكنهم كانوا يعظمون بيت الله تبارك وتعالىٰ.

فكان ممن قابله رجل من أهل اليمن يقال له: «ذو نفر»، فدعا قومه ومن أجابه من العرب إلىٰ حرب أبرهة، ولكن أبرهة هزم ذا نفر وأصحابه وأسره معه، ثمّ مرّ بالطائف فخرج إليه مسعود بن معتّب الثقفي، فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا الذي تريد([6])، إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه رجلاً يقال له: أبو رُغال ليدله علىٰ الطريق، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتىٰ نزل بالمغمّس([7])، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فبعد ذلك رجم العرب قبر أبي رغال، وذلك أنهم يرون أنه كان رجل سوء؛ لأنه كان دليلاً لأبرهة إلىٰ هدم بيت الله الحرام، وفيه يقول جرير في هجوه الفرزدق ــ وكانا يتهاجيان دائماً وبينهما نُفْرة ــ يقول جرير:

إذا مات الفرزدق فارجموه              

          كرجمكم لقبر أبي رغال

فلما نزل أبرهة بالمغمّس بعث رجلاً من الحبشة يقال له الأسود علىٰ خيل له حتىٰ أتىٰ مكة، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم لقتاله، ثمّ عرفوا أنه لا طاقة لهم لقتال أبرهة، وبعث أبرهة رجلاً يقال له: حَنَاطَة إلىٰ مكة، وقال: سلْ عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثمّ قل له: إن الملك يقول: إني لم آتِ لحربكم وإنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يُرِدْ حربي فائتني به.

فجاء حناطة وكلّم قريشاً بما قال أبرهة، وخرج معه عبد المطلب؛ لأنه سيد قريش في ذلك الزمن، فلما دخل عبد المطلب علىٰ أبرهة احتار أبرهة ماذا يفعل، وذلك أنه أراد أن يكرم عبد المطلب، قال: إن أجلسته معي علىٰ عرشي كان في هذا منقصة لي، وإن تركته وأنا علىٰ العرش كان في ذلك منقصة له. فنزل عن عرشه وجلس مع عبد المطلب علىٰ الأرض. وأول ما كلمه قال لعبد المطلب: ماذا تريد؟ قال: لقد أخذتم مئتين من الإبل لي فأعيدوها، فغضب أبرهة وقال: لقد ظننتك أكبر من هذا وأعظم، جئتني تسألني عن إبلك ولا تطلب مني أن أرجع عن البيت وألّا أهدمه.

فقال عبد المطلب كلمة كانت في وقتها حساسة جداً، ثم صارت بعد ذلك مثلاً يضرب. قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه. فقال أبرهة: ما كان ليمتنع منّي. قال: أنت وذاك. فقال أبرهة: ردوا عليه إبله. فلما رجع عبد المطلب إلىٰ قريش أخبرهم الخبر، وقال لهم: اخرجوا من مكة، فلا طاقة لكم بقتال أبرهة. فخرجوا إلىٰ الجبال، ثمّ قام عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه علىٰ أبرهة وجنده، وقال عبدالمطلب:

لا هُمَّ إن العبد يَمْنَعُ رَحْـ      

                                                     ـلَه فامنع رحالك

لا يَغْلِبنّ صليبُهم ومحا       

                                                     لُهم غِدْواً مَحالَك

إن كنت تاركهم وقِبْلَتَـ         

                                                     ـنا فأمْرٌ ما بدا لك

ثمّ أرسل عبد المطلب حلقة الباب وانطلق ومن معه إلىٰ الجبال يَتَحَرّزون فيها ينتظرون ماذا يفعل أبرهة.  فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله، وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل محموداً إلىٰ مكة برك ولم يَمْشِ معهم، وبالتالي لم تَمْشِ بقية الفيلة، فقال بعضهم: ما منع الفيل؟ قالوا: لا ندري.

قال: اضربوه، فضربوا الفيل فأبىٰ فوجهوه إلىٰ اليمن فقام، ووجهوه إلىٰ الشام فقام، ووجهوه إلىٰ المشرق فقام، فلما وجهوه إلىٰ مكة برك، ثمّ بعد ذلك فوجئوا بأن أرسل الله تبارك وتعالىٰ عليهم الطير الأبابيل، كما قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل]. نعم هكذا أرسل الله تبارك وتعالىٰ الطير الأبابيل، ورمت أبرهة ومن معه بحجارة من سجيل فأهلكهم الله تبارك وتعالىٰ جميعاً. وقيل: إنه بقي بعضهم حتىٰ يخبروا قومهم بما فعل الله تبارك وتعالىٰ بهم([8]).

 

([1])             أخرجه مسلم (2276)، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.

([2])            لأنه زارهم وإسماعيل كان صغيراً لما أمره الله أن يذبح ولده، ثم لما كان مع زوجته الأولى التي طلقها، ثم مع زوجته الثانية، وهذه هي الزيارة الرابعة.

([3])            أخرجه البخاري (3365).

([4])            يريد أن يضاهي بها الكعبة.

([5])            أي: تبرز داخل هذه الكنيسة.

([6])            يعنون اللات.

([7])            قرب مكة علىٰ طريق الطائف.

([8])            انظر: «سيرة ابن إسحاق» (1/65)، «السيرة» لابن هشام (1/43 ــ 52).