قصة عيسى عليه السلام
26-02-2023
في هذا المجتمع المليء بالمعاصي، والمليء بالفسق والفجور؛ بعث الله تبارك وتعالى عيسى صلوات الله وسلامه عليه، وعندما نريد أن نقرأ حياة نبيه عيسى عليه السلام؛ نجد أن الكتاب الذي بُعث به عيسى ﷺ هو الإنجيل، وسنحاول أن نقرأ الأناجيل الموجودة، وأن ننفض عنها الغبار المتراكم لمدة أكثر من ألفي سنة، فعندما ننفض هذا الغبار عن هذه الأناجيل، وليست إنجيلاً واحداً، بل أناجيل تعدَّتِ السبعين إنجيلاً، أشهرُها خمسة، يؤمن أكثرهم بأربعة: لوقا، ومرقس، ويوحنا، ومَتَّى، ويكفرون بالخامس وهو: برنابا.
من هو عيسى؟ وماذا يريد؟ بماذا أمر؟ وعن ماذا نهى؟ كيف كانت حياته؟
أولاً: ننظر في الأناجيل، فنجد الأناجيل جميعاً لا يوجد لها أسانيد يُعتمد عليها، بل فقدت الأسانيد بعد رفع عيسى عليه السلام بخمسين سنة فقط.
ثانياً: لا توجد أي مخطوطات لهذه الأناجيل بحيث ينظر فيها.
ثالثاً: ليست إنجيلاً واحداً وإنما أناجيل، وهذه الأناجيل بينها اختلافات واضطرابات بحيث لا يمكن الجمع بينها والخروج بنتيجة صحيحة.
رابعاً: الأناجيل الموجودة لا أحكام فيها، وإنما هي قصة عيسى عليه السلام، إذاً كتبها غيره، وليس هو الذي أتى بذلك الكتاب من الله سبحانه وتعالى الذي قال عنه عز وجل: ﴿وَآتَيْنَاهُ ٱلْإِنْجِيلَ﴾، وفيه قوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ فلا نجد شيئاً من هذا في هذه الأناجيل.
وفي النهاية نقول: هي لا تستحق كل هذا الجهد الذي نبذله في نفض الغبار والنظر، ويكفيك أن تعلم أن أول ما تنظر في أي إنجيل من هذه الأناجيل؛ فإنك تجد تفاهة عظيمة من تفاهاتهم تدل على طغيانهم وخبثهم وكفرهم، وأنهم عندما يذكرون عيسى عليه السلام يذكرون نسبه إلى يوسف النجار، ويوسف النجار هو الذي اتُهمت به مريم ؟ه، وهؤلاء الخبثاء يصدقون اليهود في دعواهم أن عيسى ابن زنا ــ والعياذ بالله ــ وأنه مِنْ ظهر يوسف النجار، وليس هو كلمة الله ألقاها إلى مريم.
ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام في القرآن:
ذُكِر عيسى ابن مريم في كتاب الله خمساً وثلاثين مرة، وذُكِرَتْ أمه مريم تسع مرات، ولا مجال للفصل بينهما، بل نذكرهما على أنهما قصة واحدة.
وقد اختلف الناس في عيسى على ثلاثة أقوال:
1 ــ قالت اليهود: هو ابن زنا لعنهم الله.
2 ــ وقالت النصارى: هو ابن الله لعنهم الله.
3 ــ وقال المسلمون: هو عبد الله ورسوله رحمهم الله.
أما مريم أم عيسى؛ فهي صديقة كما سماها الله جل وعلا ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ . وهي قانتة كما قال جل وعلا ﴿وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ﴾ . وهي من سلالة داود عليه السلام.
ونحن إذا أردنا أن ننسب عيسى؛ فإننا ننسبه إلى أمه كما نسبه الله تبارك وتعالى، فقال: ﴿عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ﴾ .
امرأة عمران تنذر ما في بطنها لله عز وجل:
تبدأ القصة عند قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ وعمران هو عابد من عباد بني إسرائيل ورجل صالح والمشهور أن امرأته أيضاً صالحة واسمها حنا قالت: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾، تقول لربها سبحانه وتعالى وهي لا تعلم ماذا يكون في بطنها؟ وتوقعت أن يكون الحمل ذكراً، فنذرت هذا الذَّكَرَ لبيت المقدس؛ ليكون خادماً للرب؛ لأن خدمة الرب تعني عبادته.
فالمهم أنها نذرت ما في بطنها محرراً من الدنيا؛ لأن الدنيا تستعبد الإنسان، ولذلك قال النبي ﷺ: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة»([1])، أما هذا فمحرر من كل قيود الدنيا، متفرغ لعبادة ربه جل وعلا: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾، لكن الذي وقع أنها ولدتْ أُنثى، فلما وضعت قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، أي: النسمة أو النفس التي ولدتها ﴿وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، وفيها قراءتان:
الأولى: بسكون التاء ﴿وَضَعَتْ﴾ .
الثانية: بضم التاء «وضعتُ».
والقراءة الأولى تكون جملة معترضة، فكان هذا الكلام الذي دخل هو كلام الله سبحانه وتعالى، فهي لما قالت: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ فيجيب الله تبارك وتعالى ﴿وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، فالله يدري أنها أنثى.
وعلى القراءة الثانية: يكون من كلامها هي، فتقول: رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وَضَعْتُ.
قالت: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ ؛ أي: كما أني نذرت هذا المولود ليكون خادماً للرب؛ فكذلك المولود الذي صار أنثى تكون خادمة للرب؛ لأنها نذرتْ ما في بطنها.
ومعنى مريم: خادمة الرب في لغتهم.
ومتى أسمتها؟
الجواب: أسمتها أول ما وضعت، وهذا دليل على أن الإنسان يجوز له أن يُسَمِّي ولده أول ما يولد. ولما جاء أنس بن مالك رضي الله عنه بأخيه عبد الله أول ما وضعته أمه؛ جاء به ليحنكه رسول الله ﷺ، فسماه عبد الله في الوقت نفسه([2]).
وجاء في الحديث عن النبي ﷺ أن الصبي أو المولود يُسَمَّى يوم سابعه([3])، فيجوز أن يُسَمَّى في أول يوم يُولد، ويجوز أن يُسَمَّى في سابعه.
قالت: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ ؛ أي: فاستجاب الله دعاءها جل وعلا، قال النبي ﷺ: «ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها»([4])، فمريم لما استعاذت أمها من الشيطان أن يمسها، وكذلك استعاذت أن يمس ذريتها، فلم يمسها ولم يمس ذريتها، وهو عيسى صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الله جل وعلا: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أي: رباها وكَفَّلَهَا زكريا، وهو خير بني إسرائيل في ذلك الوقت وهو نبي. وفي قراءة أخرى: «وَكَفَلَهَا زكريا» إذاً إما أن يكون الله كَفَّلَ لها زكريا، وإما أن يكون زكريا هو الذي كَفَلَها، وعلى كل حال فزكريا عليه السلام هو الذي اعتنى بها.
كفالة زكريا عليه السلام لمريم ؟ه:
المشهور أن عمران ــ والد مريم ــ مات وهي حمل في بطن أمها أو بعد أن ولدتها مباشرة، وذلك أن امرأة عمران نذرت ما في بطنها دون الرجوع لزوجها، وسمتها كذلك دون الرجوع لزوجها، مع أن زوجها كان مصطفى كما قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾، وهو رجل صالح، بل كان من عُبَّاد بني إسرائيل، فكيف لا ترجع إليه في النذر ولا في التسمية.
قالوا: وذلك أنه قد توفي ومريم حمل في بطن أمها، أو أنه مات بعد الولادة مباشرة، والظاهر أنه مات وهي حمل في بطن أمها.
وتسابق العُبَّاد في بيت المقدس إلى كفالتها، وذلك لمكانة أبيها، فقد كان من عُبَّادهم وعلمائهم.
ونظير هذا ما تقدم في قصة موسى مع الخضر عند قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ فالله يحفظ النسل بصلاح الآباء والأمهات، فبصلاح الأب والأم تسابقَ الناس إلى كفالة مريم، فكان زكريا عليه السلام ممن طلبها مع الناس، فنازعوه إياها، فقالوا: لا حتى تكون هناك قرعة، فعملوا قرعة كما قال تبارك وتعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، وضع كل واحد منهم قلمه، ونادوا صبياً لم يبلغ الحُلم، وقالوا له: اختر قلماً مِنْ هذه الأقلام، والذي يخرج قلمه هو الذي يكفلها، فجاء الصبي ونزع القلم، فإذا هو قلم زكريا عليه السلام، فنازعوه وقالوا: لابد مِنْ قرعة أخرى. فقال: كما تريدون. قالوا: نرمي أقلامنا في الماء، والقلم الذي يمشي عكس التيار هو الذي يكفل مريم؛ لأن هذا أمر الله، فألقوا أقلامهم، فكلها جرت مع التيار إلا قلم زكريا عليه السلام جرى بعكس التيار. فقال: إذاً آخذ مريم. فقالوا: لابد مِنْ قرعة ثالثة. قال: كما تشاؤون. قالوا: نرمي أقلامنا، والقلم الذي يمشى مع التيار هو الذي يأخذ مريم، فمشى قلم زكريا مع التيار، ومشت أقلامهم جميعاً عكسه ﴿لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾، هكذا جاء في روايات بني إسرائيل والله أعلم، ويكفينا قوله تعالى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ .
فضل مريم ؟ه:
قال النبي ﷺ: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنتُ عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»([5]) إذاً هي ممن كَمُل مِنْ النساء، كفلتْ رسولاً من أولي العزم من الرسل؛ فآسية كفلت موسى عليه السلام، ومريم كفلت عيسى عليه السلام، ولذلك كانت لهما هذه المنزلة العظيمة.
الخلاف في نبوة مريم ؟ه:
اختلف أهل العلم في مريم هل هي امرأة صديقة أو أنها امرأة نبية:
فذهب بعض أهل العلم إلى أنها نبية؛ وذلك لأمور:
أولاً: لأن الوحي جاءها على صور، فمرة يكلمها الله، ومرة يكلمها جبريل، ومرة تأتيها البشارة، ومرة يتمثَّل لها.
ثانياً: إن الله وصفها بأنها صِدِّيقة، ووصفها بأنها قانتة وهذا يدل على أنها نبية.
ثالثاً: لم يُسَمِّ اللهُ امرأةً باسمها غيرها في القرآن، فجاء فيه ذكر امرأة فرعون، وامرأة العزيز، وامرأة لوط، وامرأة نوح، ونساء النبي، وبنات النبي، وخالاته، وعماته، ولم يُذكرنَ بالاسم، وإنما بالوصف، بينما مريم ذكرت باسمها تسع مرات.
وذهــب أكثر أهــل العلم إلى أن مريم صِدِّيقة كما قال الله تبارك: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ فلم تكن نبية، ولو كانت نبية لكان شَرَّفها الله تبارك وتعالى بهذا اللقب ــ أي: لقب النبوة ــ ولناداها به سبحانه وتعالى، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا﴾ فكل الذين أرسلهم الله عز وجل كانوا من الرجال، وهذا الصحيح، فمريم لم تكن نبية، وإنما كانت صِدِّيقة، وكانت امرأة صالحة تقية نقية.
اصطفاء الله عز وجل لمريم ؟ه:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ ٱلْعَالَمِينَ﴾، الاصطفاء الأول في ولادتها وكيف أنها كانت محفوظة بحفظ الله لها بتكليف زكريا عليه السلام برعايتها، وطهرها من خُبْثِ الأخلاق، وطهرها من الشرك، وطهرها بأنها كانت من أعفِّ النساء، بل أعفهن في زمانها، واصطفاها الاصطفاء الثاني وهو: أن أخرج منها عيسى عليه السلام دون زوج، واصطفاء مريم على نساء العالمين؛ أي: عالمين زمانها، وليس كل نساء العالمين.
البشارة بعيسى عليه السلام:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾ هكذا جاءت هذه البشارة لمريم بعد أن نشأت وترعرعت وتربت في بيت المقدس.
فوجئت بأن رجلاً يدخل عليها ويقول لها: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ﴾، وجاء في سورة مريم أن الذي جاءها واحد من البشر، مَلَكٌ في صورة بشر ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [مَريَم: 17-19] فهنا مَلَكٌ وهناك ملائكة.
والصحيح أن الذي جاءها واحد، أما قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ﴾ أي: واحد من الملائكة؛ جنس الملائكة، وليس المقصود جماعة الملائكة، وهو على الصحيح جبريل عليه السلام.
ولما جاءت هذه البشارة استغربت مريم ؟ه كيف يكون هذا ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ لا بحلال ولا بحرام ما مسني بشر، فهي بكر، ﴿قَالَ كَذَلِكِ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هذه أسباب لابد منها، لابد من زواج ولابد من جماع، ولابد من نطفة ولابد أن تلتقي النطفة مع البويضة، ولكن هذه الأسباب في البشر، أما الله تبارك وتعالى فلا يحتاج لهذه الأسباب أبداً؛ لأن أمره إذا أراد شيئاً ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وينتهي كل شيء بالنسبة لله تبارك وتعالى، وهو كما قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ .
فالله جل وعلا يُجري الشمس والقمر، والشمس تُشرق كل يوم من مشرقها، وسيأتي اليوم الذي لا يأذن الله لها أن تشرق، فتخرج من مغربها، فالله سبحانه وتعالى لا تُسَيِّره الأسباب، ولكن هو الذي يُسَيِّر الأسباب، فهو مسبب الأسباب.
مريم تحمل بعيسى عليهما السلام:
حملت مريم بهذه النطفة المباركة وهو عيسى صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك يقال: عيسى كلمةُ الله ألقاها إلى مريم، وكلمة الله هي: «كن» فكان كما قال الله سبحانه وتعالى.
وأول ما وُلِدَ عيسى عليه السلام علم بذلك المنجمون، وذلك أنهم كانوا ينتظرون قدوم نبي أخبر به الأنبياء السابقون، ويكون خراب مُلْك مَلِكِهم على يديه، فجاؤوا وأخبروا الملك، وكان اسمه «هيرودس» أنهُ وُلِدَ مَلِك اليهود الذي على يديه تنتهي مملكتك، فأمر بقتل كل صبي يولد كما وقع الأمر بالنسبة لموسى ﷺ، ففرت به مريم وهو حمل، أو فرَّت بعد ولادته، وهو الصحيح، المهم أن مريم خافت على ولدها عيسى صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ قيل: هذه الربوة هي مصر، وبقيت هناك سنوات حتى مات هيرودس، ثم رجعت إلى الغوطة في دمشق.
وقيل: إنها لَمْ تفر به، وأن الربوة ذات القرار والمعين هي التي قال الله تبارك وتعالى عنها: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ وهو النهر الصغير الذي أجراه الله سبحانه وتعالى، والعلم عند الله جل وعلا.
ميلاد عيسى عليه السلام:
خلْقُ الله تبارك وتعالى كما ذكر أهل العلم على أربعة أنواع:
1 ــ من غير ذكر ولا أنثى وهو آدم عليه السلام.
2 ــ من ذكر دون أنثى وهي حواء.
3 ــ من أنثى دون ذكر وهو عيسى عليه السلام.
4 ــ من ذكر وأنثى، وهم جميع ولد آدم عدا عيسى.
ذكر الله تبارك وتعالى أن مريم عندما ولدته ﴿فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ أي: انفردت شرقي المسجد الأقصى، ثم ولدت هذا الولد، وذلك أنها خافت من كلام الناس، فسيتهمونها من أين لكِ هذا الولد؟ لا نعلم لك زوجاً، فهل كان مِنْ زنا؟ مَنْ هو والده؟ وهكذا، فخشيت مِنْ هذا كله، وهذا الأمر ثقيل عليها، تُتَّهم امرأة في عرضها، وأي امرأة؟ صِدِّيقة، قانتة، تربت في مكان عفيف، في مكان شريف مُقَدَّس.
ويُذكر أن زكريا، وقيل: أختها زوجة زكريا، وقيل: ابن خالتها، المهم: أحد هؤلاء جاءها بعد أن ولدت عيسى فقال لها: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، فمَنْ خلق الزرع الأول، قالوا لها: فهل يكون شجر من غير ماء؟ قالت: نعم فمَنْ خلق الشجر الأول؟ فقالوا لها: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، فسكتوا، لكن هؤلاء مَنْ؟ هؤلاء الذين يحبونها، وأقنعتهم أن الله على كل شيء قدير، وأن هذا أمر الله سبحانه وتعالى، فاعتزلتْ قومها، وذلك أن هؤلاء أقرب الناس إليها، ووقع في قلوبهم شيء مِنْ هذا الحمل، فكيف بالأبعدين؟ كيف بالفساق وبالفجرة؟ ماذا سيقولون عنها.
وذهبت على المشهور إلى بيت لحم، فلما وصلت إلى هناك قالت: ﴿يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ نسياً منسياً: لا يعرفني أحد وينساني الناس، أو نِسياً منسياً، النِسيّ هي الخرقة التي ينظف فيها الدم، وتلقى ولا يلتفت إليها أحد.
فالقصد أن مريم تمنتِ الموت لهذا الابتلاء العظيم الذي وقع عليها([6])، عندها قال الله تبارك وتعالى بعد أن قالت هذه الكلمة ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي﴾، وهذه الآية فيها قراءتان:
الأولى: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ بكسر حرف الميم.
الثانية: «مَنْ» بفتح الميم.
قال الله تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ إياك والهم، فأنت رَزَقَك اللهُ هذا الولد، ويجري لك هذا الماء، ويسقط عليكِ الرطب، فاطمأني وقَرِّي عيناً.
قال: «فناداها مَنْ تحتها» أي: ولدها الذي وضعته تكلم وناداها، فقال لها: يا أمِّ لا تحزني، وهذا فيه تطمين لها، فالآن وُلِدَ ويتكلم فاطمأنتْ مريم.
وقوله: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ أي: حتى يتبين أن كل شيء له سبب، ولذلك ماذا قال الله لموسى عليه السلام: ﴿ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ﴾ ابذل سبباً، وقد قيل:
ألم ترَ أن اللّه أوحى لمريم وهزي عليكِ الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع مِنْ غير هزة ولكن كل شيء له سبب
ثم قال لها: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَدًا﴾ لأنها اتخذتْ مكاناً قصياً خوفاً من البشر، ﴿فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ أي: إمساكاً عن الكلام، وهو بلسان الحال كما قال زكريا عليه السلام: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ .
مريم ترجع إلى قومها:
رجعت مريم إلى قومها مطمئنة واثقة بالله تعالى ومعها ولدها، فقالوا: ﴿يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ والفري: الشيء العظيم، وأعظم الفري يعني: أعظم الكذب،﴿يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مَريَم: 27-28] قد تقدمت المواجهة بين مريم وبين الأقارب، وهي مواجهة المحبين، هل يكون زرع من غير بذر؟ هل يكون شجر من غير ماء؟
وأما هنا فهي مواجهة الفساق الفجرة فماذا قالوا لها؟
أول شيء قالوا: ﴿يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾، كأنهم يقولون لها أنتِ كذلك والعياذ بالله ﴿يَاأُخْتَ هَارُونَ﴾ مَنْ هارون؟
اختُلف فيه على أقوال:
الأول: إنه أخوها اسمه هارون، وإما أن يكون وُلِدَ قبل مريم وأمها نذرت مريم، وإما أن يكون وُلِدَ بعد مريم، ولكن هذا يعكر عليه أننا قلنا: أن الأظهر أن عمران مات وزوجته حامل في مريم ؟ه، إذاً احتمال أن هارون هو الأخ الأكبر لها.
الثاني: إنه النبي أخو موسى عليه السلام، فهي مريم أخت موسى وهارون، وهذا بدليل أنه موسى بن عمران، وهارون بن عمران، وهي مريم بنت عمران وقد ذكر الله عز وجل أختاً لهارون وموسى عليهما السلام ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ واسمها مريم، فهذه هي مريم التي كانت تقصُّ أثر موسى عليه الصلاة والسلام، فيصبح موسى وهارون أخوالاً لعيسى صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا بعيد وليس بصحيح؛ لأنه على المشهور بين موسى وعيسى ثلاثة عشر قرناً، فبينهما من الزمن مدة طويلة.
الثالث: إن هارون عابد من عباد بني إسرائيل، ولأنها عابدة ومنذورة لبيت الله عز وجل يشبهونها بهذا الرجل الصالح، فكأنهم قالوا: أنتِ شبيهة هارون.
الرابع: إن هارون هذا كان رجلاً فاجراً عندهم، فشبهوها به.
وقد جاء في الحديثِ الصحيح أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه سأله أهل نجران: كيف عندكم في القرآن تقولون لمريم: ﴿يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ وهارون مات قبل عيسى بقرون؟ فسكت المغيرة بن شعبة، وقال: حتى أرجع إلى رسول الله ﷺ. فرجع إلى النبي ﷺ، فقال له ذلك؟ فقال له النبي ﷺ: «ألا تخبرهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم»([7])، وهذا يدل على أن هارون اسم أخيها الأكبر، والله أعلم.
اتهام مريم بالفاحشة:
اتهموا مريم بالزنا والعياذ بالله، فمَنِ الذي اتهموه بها؟ قالوا: زكريا ولذلك قتلوه.
وقيل: اتهموها بابن خالتها وهو: يوسف النجار، وهو الذي صدق به النصارى قبحهم الله، ولذا كانوا يكتبون عيسى بن يوسف النجار.
عيسى عليه السلام يتكلم في المهد ويقر بالعبودية لله عز وجل:
لما أشارت إليه قالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ فهذا صبي بالمهد، وتريدين منا أن نكلمه؟! فأشارت إلى عيسى عليه السلام، وعندها وقعت المعجزة، ووقعت الآية، تكلم الصبي في المهد وقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ﴾، فأول كلمة قالها: إنه عبد لله، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا إلى أن هناك من سيغلو بهذا الصبي، وسيقول عنه: إنه ابن الله، فكانت أول كلمة قالها: ﴿إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾، فكذّب خبرين:
الأول: كذّب من يقول: إنه ابن لله.
الثاني: وكذّب من يقول: إنه ابن زانية.
قال:﴿آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَاةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مَريَم: 30-32] كما قال أخوه يحيى عليه السلام.
وقد جاء وفدٌ مِنْ نجران إلى النبي ﷺ في السنة التاسعة من الهجرة، فناظروه في عيسى صلوات الله وسلامه عليه، وذلك أن النصارى ــ كما سيأتينا ــ تعتقد أن عيسى عليه السلام إلٰهٌ في صورة بشر، وبشرٌ في صورة إله، يجتمع فيه ناسوت ولاهوت إنسي وإلٰهي في وقت واحد، فناظرهم النبي ﷺ في عيسى، فما كان منهم إلا أن طلبوا المباهلة، فأجابهم النبي ﷺ، وجاء من الغد بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهما، يريد أن يباهل بهم وفدَ نجران، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ﴾، ونبتهل أي: يلعن كل واحد منا صاحبَه، ويلعن نفسه إذا كان كاذباً، فالابتهال الالتعان، والمباهلة هي الملاعنة.
ولو تأملنا ما تكلم به عيسى عليه السلام لوجدناه يتضمن أموراً عشرة:
أولاً: ﴿إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ﴾ .
ثانياً: ﴿آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ﴾ .
ثالثاً: ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ .
رابعاً: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾ .
خامساً: ﴿وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَاةِ وَٱلزَّكَاةِ﴾ .
سادساً: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ .
سابعاً: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ .
ثامناً: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ﴾ .
تاسعاً: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ .
عاشراً: ﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ .
عشرة أمور بَيَّنها عيسى عليه السلام عندما تكلم هذه الكلمات اليسيرة في مهده صلوات الله وسلامه عليه، والمشهور عن ابن عباس وغيره أنه لَمْ يتكلم عيسى عليه السلام بعد ذلك حتى كَبُرَ، وإنما كان كلامه في هذا المقام آية على طهارة مريم ؟ه.
المعجزات التي أيد الله عز وجل بها عيسى عليه السلام:
قال الله تبارك وتعالى عن عيسى عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَاعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ .
وقال كذلك: ﴿وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائيِلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْيِي ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ .
ونستخلص من هذه الآيات أن الله عز وجل جعل لعيسى عليه السلام ستَّ آيات أو ستَّ معجزات:
أولاً: كلامه في المهد.
ثانياً: يخلق من الطين كهيئة الطير.
ثالثاً: ينفخ فيه فيكون طيراً.
رابعاً: إبراء الأكمه والأبرص.
خامساً: إحياء الموتى.
سادساً: الإخبار بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
وهكذا كما أخبر يوسف صلوات الله وسلامه عليه ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ وهنا كذلك نبي الله عيسى عليه السلام قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، فهذه ست علامات تدل على أن عيسى صادق في دعوى النبوة.
ثم سكت عيسى عليه السلام بعد ذلك فترة من الزمن، وذكرنا أن مريم هاجرت به إلى مصر أو إلى دمشق أو اختبأت حتى مات المَلِك «هيرودس» الذي كان يريد قتل عيسى عليه السلام؛ لأنه كان يخافه على مُلْكِه.
ثم بعد ذلك استمر في حياته، وتركت هذه المدة الطويلة من حياته عليه السلام دون ذكر؛ لأن الذي يأتي بعدها هو الأهم؛ لأن القرآن ليس كتاب تاريخ، وإنما هو كتاب هداية؛ كتاب نور، يذكر لنا ما نحتاج إليه، وما نستفيد منه، وما نعتبر به، والمشهور أنه بُعِثَ بعد الثلاثين من عمره، واستمر في بعثته ثلاث سنوات، ثم بعد ذلك جاءت حادثة رفعه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه.
دعوة عيسى عليه السلام:
كان يدعو إلى توحيد الله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ﴾ .
وكان يدعو إلى طاعة الله ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ .
وكان يدعو إلى الإيمان باليوم الآخر، وإلى عدم التهافت على الدنيا.
وكان يدعو إلى الزهد.
وكان يدعو إلى التواضع وعدم التكبر.
وكان يدعو إلى حسن المعاملة بين الناس.
وكان يدعو إلى عدم الظلم والعدوان على أموال الناس.
وكان يدعو إلى الالتزام بالتوراة التي جاء بها موسى عليه السلام: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ فنسخ بعض الأحكام التي في التوراة، ولكن في الجملة هو مصدق لما جاء في التوراة.
قصة المائدة:
وقعت حادثة في زمن عيسى عليه السلام ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَالَ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لا يجوز لكم أن تسألوا بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب، فقالوا: لا يا عيسى نحن ما قصدنا التعنت وإن أسأنا المقال ولكننا: ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ﴾ .
قال: إن كان كذلك فدعوني أدعو ربي، فصار يدعو ربه تبارك وتعالى ويسأله أن يُنزل عليهم تلك المائدة، فقال عيسى عليه السلام: ﴿ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ﴾ أي: على صدقي وعلى نبوتي ﴿وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ﴾ سأُنزل هذه المائدة ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ بهذه المائدة وبما جئت به يا عيسى ﴿أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ ٱلْعَالَمِينَ﴾ .
ولما جاءت هذه الكلمات من الله تبارك وتعالى وأخبر بها عيسى عليه السلام الناس؛ قال: إن الله جل وعلا سينزل هذه المائدة، ولكن انتبهوا هناك وعيد شديد لمن كفر بعد نزول المائدة، فإن الله سيعذبه عذاباً ما يعذبه أحداً من العالمين.
وهنا اختلف العلماء ماذا حدث بعد هذه الكلمات من الله عز وجل؟
فقال بعض أهل العلم ــ ومنهم الحسن البصري([8]) ــ: إن المائدة لم تنزل، وذلك أنهم قالوا بعد التهديد الذي جاءهم من الله: لا حاجة لنا بهذه المائدة وخافوا.
والأكثر على أن المائدة نزلت بدليل قول الله تبارك وتعالى: ﴿مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾، والعلم عند الله جل وعلا.
ولكن الغريب أن التوراة الموجودة حالياً والإنجيل الموجود حالياً لم يذكرا شيئاً عن هذه المائدة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها لم تنزل، ولكن الإشكال هنا هو أن التوراة والإنجيل قد مستهما يد التحريف، فلا يوثق بهما الآن.
الحواريون:
الحواريون ذكرهم الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز على سبيل المدح، فقال الله جل وعلا: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ .
وقال الله عنهم: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ﴾ فالحواري هو الناصر.
ومنه قول النبي ﷺ لأصحابه يوم الخندق لما طلب منهم رجلاً يخرج إلى الكفار ويدخل بينهم حتى يَسمع كلامهم ويأخذ أسرارهم، فندب أصحابه قال: «من يخرج إليهم؟» فقام الزبير بن العوام رضي الله عنه، فقال: أنا يا رسول الله فسكت النبي ﷺ، فأعادها مرة ثانية: «من يخرج إليهم؟» فقام الزبير بن العوام رضي الله عنه فقال: أنا يا رسول الله، فسكت النبي ﷺ، ثم أعاد الثالثة فقال: «من يخرج إليهم؟» فقام الزبير بن العوام رضي الله عنه فقال: أنا يا رسول الله، عندها قال النبي ﷺ: «لكل نبي حواري، وحواريي الزبير»([9]).
كلمات عاطرة عن عيسى عليه السلام:
وقد نقلت عن عيسى صلوات الله وسلامه عليه كلمات طيبة ــ والله أعلم بثبوت بعضها عنه ــ، منها أنه قال: «حب الدنيا رأس كل خطيئة».
وقال عن الدنيا: «اعبروها ولا تعمروها».
وقال: «رب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً».
وقال: «لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن».
وقال: «لا يستقيم الماء والنار في إناء».
وقال: «طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله».
ومرّ يوماً وأصحابه معه بجيفة فقالوا: ما أنتن ريحها! فقال عيسى عليه السلام: «ما أبيض أسنانها!».
وقال: «إنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية».
ورأى رجلاً يسرق فقال له: «أسرقت؟» فقال الرجل: كلا والذي لا إلٰه إلا هو؛ فقال عيسى عليه السلام: «آمنت بالله، وكذبت عيني»([10]).
ونُقِلَ عنه أنه ذكر ثلاثة خرجوا، فعثروا على كنز مِنْ ذهب، فاقتسموه بينهم، ثم طُلِبَ مِنْ واحدٍ منهم أن يذهب ويأتيهم بالطعام، فلما خرج جاء الشيطان صاحبيه، فطمع كلٌ منهما في الذهب، وقالا: بدلاً مِنْ أن يُقسم المال على ثلاثة لماذا لا يُقسم على اثنين، فاقتنعا وعزما على قتل صاحبهما، فلما رجع صاحبهما وجاء بالطعام قاما إليه وهو غافل، فقتلاه حتى يأخذا الذهب كله، ولكن فاتهما أن الشيطان الذي جاءهما جاء صاحبهما، فقال له: تقتلهما ثم تأخذ المال كله، قال له: وكيف لي ذلك؟ قال تضع سُمْاً في الطعام، فوضع سُمّاً في الطعام، فلما قتلاه أكلا الطعام فمات الجميع وبقي الذهب. وهذه هي نتيجة الطمع.
مؤامرة اليهود على عيسى عليه السلام ونجاته منهم:
رسالة عيسى ﷺ لم تلقَ قبولاً عند الكثير من اليهود في ذلك الوقت، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ فعزموا على قتل عيسى عليه السلام عن طريق إثارة المَلِك عليه بقولهم: إن هذا هو الذي سيسلب مُلْكَك وعزم الملك على قتله، ولكن الله تبارك وتعالى يحفظ رسله سبحانه وتعالى، ولم يُرِد الله جل وعلا أن يسلطهم عليه كما تسلطوا على يحيى عليه السلام، وكما تسلطوا على زكريا عليه السلام، وكما تسلطوا على كثير من الأنبياء، وذلك أن الله عز وجل ألقى الشبه على آخر، فظنوه عيسى عليه السلام، فأخذوه وقتلوه، وهم يظنون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام، وواقع الأمر أنه لم يُقْتَل كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وهناك ثلاث روايات ذُكِرَت في كتب بني إسرائيل:
الرواية الأولى: أن كبير الحرس الذي كان حريصاً على قتل عيسى صلوات الله وسلامه عليه دخل عليه البيت يريد قتله، فرفع الله عيسى عليه السلام مِنْ روزنة بالجدار([11])، وأُلقي الشبه على هذا الرجل، فلما تأخر عليهم دخلوا البيت، فوجدوا صاحبهم، ولكن الشبه شبه عيسى، فأخذوه وقالوا: أمسكناه، قال: أنا صاحبكم، قالوا: نعم أنت صاحبنا، فأخذوه وقتلوه يظنون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام.
الرواية الثانية: أن عيسى قال لتلاميذه: أحدكم يخونني، وهو «يهوذا الإسخريوطي»، ذهب إلى المَلِك وقال: أنا أُعلمك بمكان عيسى حتى تقتله، فلما أخبره وجاء الجند ليأخذوا عيسى أَلْقَى اللهُ الشبه على «يهوذا» فأخذوه وقتلوه يظنونه عيسى عليه السلام.
هاتان روايتان تقولان أن الذي أُلقي عليه الشبه هو عدو لعيسى عليه السلام.
الرواية الثالثة: أن عيسى عليه السلام حوصر في البيت وكان معه تلاميذه، فقال لتلاميذه: أيكم يتبرع فَيُلقي اللهُ الشبه عليه فَيُقْتَل ويكون في درجتي في الجنة، فقال أحد تلاميذه وكان مِنْ أصغرهم سناً: أنا. فقال: «أنت صاحبي» فأُلقي الشبه على هذا الحواري، وأُخذ وقُتِلَ متبرعاً دون عيسى صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ لكنه رفع عيسى كما قال جل وعلا: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ﴾ فالمكر منهم إرادة قتل عيسى، والمكر من الله سبحانه وتعالى أن ألقى الشبه على غير عيسى، سواء قلنا: ألقاه على رئيس الشرطة أو ألقاه على التلميذ الخائن، أو ألقاه على التلميذ النجيب أياً كان، المهم أن الشبه أُلقي على آخر، وهذا المكر من الله بهم أنهم أخذوه يظنون أنهم أخذوا عيسى عليه السلام، وما قتلوه كما قال الله جل وعلا: ﴿إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وهنا في قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ دلالة واضحة على أنه ما قُتِلَ صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قوله: ﴿وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ﴾ قال الحافظ ابن كثير: نحن الذين اتبعوه، ما قلنا إلا كما قال هو: عبد الله، ما قلنا: هو ابن الله، وليس النصارى الآن هم أتباع عيسى عليه السلام بل أعداء عيسى عليه السلام ولذلك الله تبارك وتعالى يقول لعيسى عليه السلام يوم القيامة: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلـٰهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾، وقال: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ ٱلْغُيُوبِ﴾، وقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ .
إذاً أتباع عيسى عليه السلام هم الذين ساروا على نهجه واقتفوا أثره، ولما هاجر النبي إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: لماذا يصومونه؟ فقالوا: هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون، فقال: «نحن أحق بموسى منكم»([12])، ونحن كذلك نقولها للنصارى: نحن أحق بعيسى منكم صلوات الله وسلامه عليه، كيف والله تبارك وتعالى يقول عنهم وعن اليهود: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: يقيناً ما قتلوه أو هم ليسوا متيقنين أنهم قتلوه، تحتمل معنيين إما ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: غير متأكدين أنهم قتلوه؛ لأن هذا الذي أخذوه وصلبوه كان يصيح ويبكي، فقالوا: ما هذه عادة عيسى فتشككوا في الذي قتلوه، خاصة أن بعض تلاميذ عيسى عليه السلام الذين يعلمون أن عيسى ما قُتِلَ، وإنما رُفِعَ كانوا يتكلمون بهذا، فهم في شك ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ .
أو أن يكون الكلام من الله يقطع بذلك: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ فيكون فيها تقديم أو تأخير، ويكون معنىٰ ذلك: يقيناً ما قتلوه.
رَفْعُ عيسى عليه السلام:
قال الله تعالى: ﴿َلْ رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ وعن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى عليه السلام إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً منهم أي: مِنْ الحواريين فقال: إن منكم من يكفر اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يُلْقىٰ عليه شبهي فيُقْتَل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال له: «اجلس»، ثم أعاد الثانية فقام الشاب فقال: «اجلس»، ثم أعاد الثالثة فقام الشاب، فقال عيسى صلوات الله وسلامه عليه «أنت هو ذاك» فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى مِنْ روزنة في البيت في السقف إلى السماء وجاء مَنْ يطلبه مِنْ اليهود فأخذوا الشبيه، فقتلوه ثم صلبوه، فكفر بعيسى أحدهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا بعد ذلك إلى ثلاث فرق:
فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء أي: أن عيسى عليه السلام هو الله، وهذه فرقة اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه إليه، قال ابن عباس: وهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله عز وجل ثم رفعه إليه، وهؤلاء هم المسلمون([13]).
وأناجيل النصارى كثيرة جداً، بل ذُكِرَ أن الأناجيل التي كتبت بعد رفع عيسى أكثر من مئة إنجيل، كل واحد يكتب، ولكن الأناجيل التي اعتمدت بعد ذلك سبعون، والأناجيل المعتمدة الآن أربعة: مَتَّى، ولوقا، ويوحنا، ومرقص، وهذه تسمى عند النصارى العهد الجديد.
وهناك العهد القديم، وهي التوراة والأسفار التي معها.
وهناك إنجيل خامس يقال له «برنابا» وهذا لا تعترف به الكنيسة، وهو أقرب الأناجيل إلى الحق، وكل الأناجيل على باطل حتى برنابا هذا، ولكنه أقربها إلى الحق.
جاء في إنجيل برنابا: «فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل وروفائيل وأدرين أن يأخذوا يسوع([14]) من العالم، فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فجعلوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تُسَبِّح الله إلى الأبد، ودخل ياهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع، وكان التلاميذ كلهم نياماً، فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغير ياهوذا في النطق والوجه، فصار شبيهاً بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع».
ولأن برنابا هذا هو أحد الحواريين كما يدعون؛ فبرنابا يقول: إن ياهوذا هو الذي أُلقي عليه الشبه، وهو التلميذ الخائن، وأن عيسى رُفع إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه.
معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ :
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، فما معنى مُتَوفيك؟ هل مات عيسى صلوات الله وسلامه عليه في الدنيا أم لم يمت؟ مع الاتفاق أن عيسى لم يُصلب؛ لأن هذا نص القرآن ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾ فلمْ يُصلب ولمْ يُقتَل، وهذا بالإجماع، ومن قال بخلاف ذلك؛ فهو كافر مرتد؛ لأنه كَذَّب قول الله تبارك وتعالى.
ولأهل العلم في معنى قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الله توفاه بمعنى أماته، ولكن لم يُقْتَل، ولكن أماته الله حتف أنفه، مات ميتة طبيعية بعد أن قتل الشبيه أماته ثم رفعه إلى السماء دون أن تناله أيديهم.
القول الثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً، ﴿إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ فيكون الرفع أولاً ثم الوفاة، والوفاة بعد أن ينزل إلى الدنيا ويَقْتُل الدجال يتوفاه الله، فيكون في الآية تقديم وتأخير، ويكون المعنى إني رافعك إليَّ ومتوفيك.
القول الثالث: أن الوفاة هنا هي النوم كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِٱلنَّهَارِ﴾ أي: أن الله أَلْقَى على عيسى النوم، ثم رفعه فتكون الوفاة هنا بمعنى النوم ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي: مُنيمك ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، ومصداق ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَى عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ فالنوم يسمى الوفاة الصغرى أو الموتة الصغرى، فتكون الوفاة هنا بمعنى النوم مُنيمك ثم أرفعك إليّ، وهذا أقرب الأقوال إلى الصواب.
وعلى كل حال سواء قلنا بالأول أو الثاني أو الثالث فكلها أقوال لأهل العلم، ولكن الإجماع على أن اليهود ما مسوا شعرة من عيسى صلوات الله وسلامه عليه.
ورُفع عيسى عليه السلام وله من العمر ثلاثة وثلاثون سنة على المشهور.
معنى اسم المسيح:
واشتهر عيسى بلقب «المسيح»، وكلمة المسيح لها معانٍ كثيرة، فمن معانيها:
1 ــ الذي يسيح في الأرض ليس له مكان يستقر به، فينتقل من بلد إلى بلد.
2 ــ الذي يمسح الناس فيشفيهم، وذلك أن عيسى كان يأتي لصاحب العاهة كالأكمه والأبرص، والزَمِن الذي لا يستطيع أن يمشي، والميت، فيمسح على هؤلاء فيقومون وكأنه لم يكن فيهم شيء.
3 ــ الممسوح الأخمُص من القدم أي: أن قدمه مخموصة قطعة واحدة ليس فيها التجويف الداخلي في القدم.
4 ــ الذي فيه مسحة من جمال، ولذلك قال النبي ﷺ عن جرير بن عبد الله: «كأنه فيه مسحة من ملك»([15]).
صفة عيسى عليه السلام:
من صفة عيسى عليه السلام ما قاله النبي ﷺ: «كان ربعة» أي: معتدل لا طويل ولا قصير، «كأنما خرج من ديماس»([16]) كأنما الآن اغتسل وخرج من الحمام لشدة نضارته صلوات الله وسلامه عليه. وهو أبيض مشرب بالحمرة، لا هو أسمر ولا أبرص، وإنما بياض جميل كما قال الله تبارك وتعالى عن يد موسى عليه السلام: ﴿بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ . يصل شعره إلى منكبيه صلوات الله وسلامه عليه.
دعوة الحواريين للناس بعد رفع عيسى عليه السلام:
وبعد رفع عيسى عليه السلام تفرق الحواريون في البلاد يدعون إلى عبادة الله وإلى الإيمان به سبحانه وتعالى والإيمان بالمسيح، وأنه عبد الله ورسوله؛ يدعون بدعوته صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه وقع على تلاميذه ألوان عظيمة من الأذى والاضطهاد والقتل والتشريد، وفُعلت فيهم الأفاعيل، وكانت أعظم تلك الاضطهادات ما وقع على يد الملك «نيرون» سنة أربع وستين من الميلاد، ثم بعده في عهد الملك «تراجان» سنة ست ومئة من الميلاد، ثم على يد الملك «ديسيوس» سنة تسع وأربعين ومئتين من الميلاد، ثم على يد «قليديانوس» سنة ثمانين ومئتين من الميلاد، وهذه أشد الاضطهادات، وكانت طبعاً بوشاية من اليهود، يأتون إلى الملوك ويقولون: هؤلاء يريدون إفساد مُلْكِكم هؤلاء لا يرونكم ملوكاً، هؤلاء يرونكم على ضلال، وهكذا يفعلون بأتباع عيسى صلوات الله وسلامه عليه، سواء كان بالحورايين أنفسهم كما في عهد «نيرون» أو أتباع الحواريين الذين آمنوا بدعوتهم وآمنوا بعيسى عليه السلام مِنْ أتباعهم أو أتباع أتباعهم، وهكذا كانوا يُشردون ويُقتلون ويُضطهدون.
المسيحية التي جاء بها عيسى عليه السلام:
قال الله جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَاعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلـٰهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ ٱلْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ .
وقال الله جل وعلا: ﴿لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ .
بولس يبدل الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام:
رجل يهودي اسمه «شاوَل» كان من أعدى أعداء تلاميذ عيسى صلوات الله وسلامه عليه، وكان يؤذيهم الأذى الشديد، ويضطهدهم ويسجنهم ويدل عل أماكنهم، وكان يسطو على الكنيسة ويأخذ الرجال والنساء إلى السجن، وكان يهدد ويقتل كل من يكون على دين عيسى صلوات الله وسلامه عليه، ثم فجأة وإذا هو أكبر داعية للمسيحية، وأكبر داعية لعيسى عليه السلام وتسمى باسم آخر وهو «بولس»، هذا «شاوَل» اليهودي جاءهم وقال: أنا «بولس» الآن، أريد أن أدعو إلى عيسى، وقال: كنت أمشي في الطريق فجاءني عيسى، فنظرت إليه في السماء، فقال لي: يا «شاوَل» إلى متى تضطهدني؟ إلى متى ما تتوب؟ فقال: إني تبت الآن، وأنا الآن أريد أن أدعو إلى المسيحية، فصار أشهر أتباع عيسى في دعواه، وصار القدوة عند غالب الناس بلا منازع، وصار الناس يقولون: «قال بولس»، «أمر بولس» حتى إنه الآن في الأناجيل الموجودة الآن رسائل بولس أكثر من اثنتي عشرة رسالة، وصار الآن أتقى واحد فيهم، وهذا التحول عجيب.
وكيف استطاع بولس أن يصل إلى هذه المرحلة أو هذه الدرجة؟
أولاً: كان الرجل نشيطاً دائم الحركة يسافر من بلد إلى بلد لا يجلس أبداً.
ثانياً: كان ذكياً بارعاً يستطيع أن يقنعك أن هذا الجدار ليس بجدار، وأنه من الذهب وغير ذلك من الأمور.
ثالثاً: كان متكلماً مفوهاً.
بل قالوا: ناصره برنابا وكان برنابا يدافع عنه، فيقال: إن «بولس» هو أول مَنْ أفسد على النصارى دينهم؛ لأنه جاء من اليهودية إلى النصرانية، وهنالك «بولس» آخر جاء في القرن الرابع الميلادي، وهو: «بولس الشمشاطي»، وهو أول مَنْ قال باللاهوت والناسوت: أن عيسى إلٰه أو أن عيسى ابن الله.
وكان النصارى في ذلك الوقت كلهم على عقيدة واحدة، وهي أن عيسى عبد الله، وأن عيسى آية من آيات الله تبارك وتعالى، وأنه وُلِدَ من غير أب، لكن كون عيسى إله، عيسى ابن الله، الله ثلاثة، فهذه جاء بها «بولس» الآخر وهو «بولس الشمشاطي». ولذلك قال أهل العلم: «بولس الشمشاطي» هو الذي أفسد على الناس دينهم بعد أن أفسد «بولس» الأول ما أفسد، فقد كان تلاميذ عيسى عليه السلام يقولون رُفِعَ، والآن لا يستطيع أحد أن يقول: رفع.
بداية المجامع الكنسية:
بعد رفع عيسى عليه السلام وموت تلاميذه صارت خلافات كثيرة بين النصارى ووجدوا الحل في حسم تلك الخلافات أن تكون هناك مجامع كنسية أو مجامع سكسونية أو مجامع إقليمية، المهم اتخذوا المجامع، وهذه المجامع من خلالها يتخذون القرارات، فكان أول مجمع لهم هو مجمع «فينيقية» سنة خمس وعشرين وثلاثمئة، وكان هذا المجمع يناقش قضية: هل عيسى بشر رسول أو ابن الله؟
ثم خرج المجمع بالنتيجة أن عيسى ابن الله، وكل من لم يقل أن عيسى ابن الله ملعون، وكل كتاب يقول غير هذا الكلام يحرق، يعني: أن هذه عقيدة يجب أن تُقْبَل رغم كل أنف.
ثم صار المجمع الثاني المجمع «القسطنطينى»، وذلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة هذا المجمع ناقش قضية أخرى وهي: قضية التثليث، وتم اعتماد التثليث: «الله»، «عيسى»، «روح القدس»، وقال بعضهم: «الله»، «عيسى»، «مريم» المهم: واحدٌ في ثلاثة وثلاثة في واحدٍ.
مناظرة الباقلاني لعلماء النصارى:
أرسل ملك من ملوك النصارى إلى أحد ملوك المسلمين فطلب منه أن يُرْسِلَ له أحد علماء المسلمين ليناظره علماء النصارى فأرسل أبا بكر الباقلاني، فلما وصل؛ قالوا له: إذا أردت أن تدخل على المَلِك لابد أن تلتزم شروطنا.
قال: وما شروطكم؟
قالوا: أنْ تسجد للملك، فنحن كلنا نسجد للملك إذا دخلنا عليه، فأنت إذا لم تسجد للملك فهذه إهانة.
قال: إذاً لا أدخل على الملك فأنا لا أسجد إلا لله عز وجل.
فلما وجدوه مُصرّاً على رأيه؛ قالوا: انتظر، فدخلوا على الملك، وقالوا له: هذا الرجل يرفض أن يسجد لك فهل ندخله أو لا؟
قال: أدخلوه. ولكنهم احتالوا، فجاؤوا إلى الباب، فوضعوا في وسط الباب خشبة حتى لا يدخل مستقيماً، وإنما يدخل راكعاً إلى الملك.
فجاء الباقلاني وإذا الخشبة موضوعة، فانتبه وفهم أنهم يقصدون أن يدخل راكعاً، فلا يُعْقَل أنْ يكون هذا الباب الذي يُدْخَل منه إلى الملك، فلما رأى ذلك؛ دخل بظهره، وهذا من حسن الفهم والانتباه، والمؤمن كيس فطن.
فلما دخل إلى الملك وإذا عنده الرهبان والأحبار الذين سيناظرهم فجاءهم وقال: كيف حالكم؟ وكيف حال الأهل؟ وكيف الزوجات والأولاد؟
فنظر إليه الملك نظرة استغراب، وقال: أنت الذي أرسلك مَلِكُكم لتناظر الرهبان؟
قال: نعم.
قال: أما وجد غيرك؟!
قال: ولِمَ؟
قال: أبسط الأمور التي يجب أن تعرفها أن هؤلاء لا يتزوجون، فكيف تسألهم عن الزوجات والأولاد؟
قال: ولِمَ؟
قال: هؤلاء منزهون عن الولد والزوجة.
فقال: سبحان الله! نزهتم هؤلاء عن الزوجة والولد، ولمْ تنزهوا الله عز وجل، فقلتم عيسى ابن الله!! فسكتوا.
ثم قالوا: ما هذا الذي يقال في امرأة نبيكم؟
قال: نعم، هما امرأتان اتهمتا بالزنا عائشة ومريم، أما عائشة فكانت ذات زوج ولم تأتِ بولد، وأما مريم فلم يكن لها زوج وأتت بولد، فإذا كنتم تصدقون ذلك في عائشة؛ إذاً صدقوا في مريم من باب أولى، فمن أولى بالاتهام؟ عائشة أم مريم؟ فسكتوا ولم يتكلموا.
عودة إلى المجامع السكسونية:
ثم كان المجمع الثالث في «أفسس» سنة إحدى وثلاثين وأربعمئة وقرر أن مريم أيضاً إلٰه.
ثم جاء المجمع الرابع، مجمع سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وبعد هذا المجمع خرجت النتيجة النهائية وهي أن عيسى ناسوت ولاهوت، إلٰه وبشر، فهذه عقيدة النصارى في عيسى ابن مريم، حيث جعل النصارى خاتمة أمر المسيح خاتمة شنيعة ومأساة مروعة، وجعلوا الاعتقاد بحصولها أصلاً من أصول دينهم، فلا يُقْبَل عندهم من مؤمن إيمان إلا بهذا، وهي أنه صُلب وقُتِلَ واستهزئ به، وأن اليهود قتلوه رغماً عنه، وأنه كان يبكي قبيل قتله صلوات الله وسلامه عليه.
فقالوا: إن آدم لما أكل من الشجرة وعصى الله تبارك وتعالى أراد الله أَنْ يُكَفِّر خطيئة آدم بولده عيسى، فَقُتِلَ عيسى تكفيراً لخطيئة آدم، يتحمل عيسى ذنوب العباد كلهم، فإذا أذنب أحدهم؛ فإنه يذهب إلى القس ويدفع مبلغاً من المال، ثم يعده القس فيقول: انتهى الأمر، عيسى تحمل عنك ذنوبك، ثم يخرج الرجل ويعصي مرة ثانية، وهكذا.
نزول عيسى عليه السلام:
رفع عيسى صلوات الله وسلامه، وسيرجع مرة ثانية ليكمل مسيرة الدعوة؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، وأولو العزم من الرسل هم الذين عانوا وتعبوا في دعوتهم؛ لأنه قد يقول قائل: أين دعوة عيسى، وأين المعاناة حتى صار من أجلها مِنْ أولي العزم؟ نقول: لم تنته دعوة عيسى بعد وسينزل ويُكْمِل دعوته صلوات الله وسلامه عليه.
قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها»([17]).
وقال كذلك ﷺ: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»([18]).
وقال صلوات الله وسلامه عليه عندما ذكر الدجال: «وبينما هو كذلك ــ أي: الدجال ــ إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ــ أي: ثوبين مصبوغين بالحمرة ــ واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدر منه اللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه ــ أي: يطلب الدجال ــ حتى يدركه بباب لدٍ فيقتله»([19]).
وتستمر حياة عيسى عليه السلام بعد ذلك على المشهور ــ كما جاء عن عائشة ــ أربعين سنة، ثم يتوفاه الله تبارك وتعالى، ويموت ميتة حقيقية، ويكون قد بلغ من العمر ثلاثة وسبعين سنة.
ونختم ذكر عيسى صلوات الله وسلامه عليه بهذه القصيدة وهي عبارة عن تساؤلات تساءل بها الإمام ابن القيم رحمه الله قال:
أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه
إذا مات الإلٰه بصنع قوم أماتوه فما هذا الإلٰه؟!
وهل أرضاه ما نالوه منه؟ فبشراهم إذا نالوا رضاه
وإن سخط الذي فعلوه فيه فقوتهم إذن أوهت قواه
وهل بقي الوجود بلا إلٰه سميع يستجيب لمن دعاه؟
وهل خلت الطباق السبع لما ثوى تحت التراب، وقد علاه؟
وهل خلت العوالم من إلٰه يدبرها، وقد سمرت يداه؟
وكيف تخلت الأملاك عنه بنصرهم، وقد سمعوا بكاه؟
وكيف أطاقت الخشبات حمل الإلٰه الحق شد على قفاه؟
وكيف دنا الحديد إليه حتى يخالطه، ويلحقه أذاه؟
وكيف تمكنت أيدي عداه وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟
وهل عاد المسيح إلى حياة أم المحيي له رب سواه
ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه
وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً، فاتحاً للثدي فاه؟
ويأكل، ثم يشرب، ثم يأتي بلازم ذاك، هل هذا إلٰه؟!
تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه
أعباد الصليب، لأي معنى يعنف أو يقبح من رماه؟
وهل تقضي العقول بغير كسر وإحراق له، ولمن بغاه؟
إذا ركب الإلٰه عليه كرهاً وقد شدت لتسمير يداه
فذاك المركب الملعون حقاً فدسه، لا تبسه إذا تراه
يهان عليه رب الخلق طراً وتعبده؟ فإنك من عداه
فإن عظمته من أجل أن قد حوى رب العباد، وقد علاه
وقد فقد الصليب، فإن رأينا له شكلاً تذكرنا سناه
فهلا للقبور سجدت طراً لضم القبر ربك في حشاه؟
فيا عبد المسيح أفق، فهذا بدايته، وهذا منتهاه
وأخيراً: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾، فهذا مبتداه وهذا منتهاه، والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى سيدنا محمد.
([2]) أخرجه البخاري (5470)، ومسلم (2144).
([3]) أخرجه أبو داود في (2837، 2838)، والترمذي في (1522)، والنسائي (4220)، ابن ماجه (3165)، وهو في صحيح «إرواء الغليل» (1165).
([4]) أخرجه البخاري (4548)، ومسلم (2366).
([5]) أخرجه البخاري (3411)، ومسلم (2431).
([6]) قال القرطبي رحمه الله: «وأما مريم ؟ه فإنما تمنت الموت لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها وتُعَيَّر، فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والزور، والنسبة إلى الزنا، وذلك مهلك لهم، والله أعلم» «التذكرة» ص6.
([8]) وروي عن مجاهد مثله. انظر: «تفسير الطبري» (11/231).
([9]) أخرجه البخاري (2846)، ومسلم (2415).
([10]) أخرجه البخاري (3444)، مسلم (2368).
([12]) أخرجه البخاري (3397)، ومسلم (1130).
([13]) «تفسير الطبري» (23/366 ــ 367).
([14]) هم يسمون عيسى عليه السلام بيسوع.
([15]) أخرجه أحمد (4/359 ــ 364)، وابن حبان (7199)، وابن خزيمة (1797)، والنسائي في «الكبرى» (8302)، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على «ابن خزيمة».
([16]) أخرجه البخاري (3183)، ومسلم (245) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([17]) أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (155).