قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
26-02-2023
العلاقة بين أسرة عمران وأسرة زكريا عليه السلام: أسرتان كريمتان ذكرهما الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، كانت لهما صلة ببعضهما وهما أسرة عمران، وأسرة زكريا عليه السلام فزكريا نبي كريم من أنبياء بني إسرائيل رزقه الله تبارك وتعالى ولداً نبياً وهو يحيى صلوات الله وسلامه عليه، وصاهر زكريا أسرة عمران فتزوج أخت مريم وقيل: تزوج خالتها، ومن مريم ؟ه ولد رسول الله عيسى صلوات الله وسلامه عليه. فسيكون حديثنا أولاً عن زكريا وابنه يحيى عليهما السلام. ثم يكون الحديث عن مريم وابنها عيسى عليه السلام وسنجد أن هناك أموراً مشتركة بين عيسى ويحيى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. زكريا عليه السلام يسأل الله الذرية: ذكر زكريا سبع مرات وذكر يحيى خمس مرات، قال الله تبارك وتعالى في ذكر زكريا وابنه يحيى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ أي: اذكر يا محمد رحمة ربك الظاهرة في عبده زكريا ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ نادى زكريا ربه نداءً خفياً، والنداء الخفي أقرب إلى الإخلاص وأقرب مِنْ ثَمَّ إلى الإجابة، جاء في بعض روايات بني إسرائيل أنه قال: يا رب يا رب فكان الله يقول له: لبيك لبيك لبيك اطلب ما تريد، وذلك لأنه كان عبداً صالحاً ونبياً كريماً، وهكذا يصنع الله سبحانه وتعالى بأوليائه جل وعلا. قال: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي﴾ يُكَنِّي عن كبر سنه ﴿وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا﴾، قال: اشتعل، ولم يقل شاب رأسي وإنما قال: اشتعل لسرعة الشيب إليه ومن هذا قول الشاعر: أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدُجى واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في شجر وآض عود الهم يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مداد الثرى ثم قال: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًا﴾ يعني ما عودتني يا رب أن أكون شقياً بدعائك بل عودتني إذا دعوتك استجبت لي، ثم قال: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ والموالي: هم الكبار في بني إسرائيل، فخاف من بني إسرائيل، وذلك أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء([1])، وزكريا نبي واشتعل الرأس شيباً ووهن العظم منه وخاف الموت وخاف من الموالي، وذلك أنه ما كان يثق بهم، فخشي أنهم يفسدون على بني إسرائيل دينهم، فسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقه ولداً نبياً فيرث منه النبوة ويستمر الصلاح والخير في بني إسرائيل، ولذلك قال: ﴿خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي: والحال أن امرأتي عاقرٌ، فهو سبب مانع للحمل والولادة، وهو غير ممكن في الغالب، لا لأن الله لا يقدر؛ فهو أعلم الناس بالله جل وعلا بل لأن العادة لا تقتضي أن يولد لمثل هذا الرجل، فقد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً وامرأته عاقر وهو يريد خرق العادة. ولماذا سأل خرق العادة؟ قالوا: لأنه رأى الله تبارك وتعالى خرق العادة لمريم حيث كان مسؤولاً عنها كما سيأتي، يقول الله جل وعلا: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء وهو المسؤول عن إطعامها، فمن الذي يأتيها بهذا الطعام؟ ﴿قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فهنا تنبه زكريا عليه السلام أن أمر الله كن فيكون، فقام من الليل يصلي لله جل وعلا ثم رفع يديه إلى السماء وقال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مَريَم: 5] سأل الله على الحالة التي هو عليها وحال زوجته؛ لأنه رأى الكرامة التي أعطاها الله لمريم ولا يمنع أبداً أن يعطيه تبارك وتعالى كرامة مثلها فهو نبي كريم. ميراث زكريا عليه السلام: قال زكريا: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ قال: أريد غلاماً يرثني، وليس الميراث هنا ميراث المال، وإنما ميراث النبوة بدلالة قوله: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ﴾، ولماذا نقول: إنه لا يطلب ميراث مال؟ أولاً: أن النبي ﷺ قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث»([2]) وزكريا من الأنبياء فهو لا يورث أيضاً، ولو ترك مالاً لا يرثه أولاده وهذه قضية محسومة عند زكريا صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يطلب ولداً يرث ماله وهو يعلم أنه لا يورث أصلاً؟ ثانياً: إن زكريا كما أخبر النبي ﷺ في الحديث الذي أخرجه مسلم «كان نجاراً»([3]) يأكل مِنْ عمل يده، فلم يكن صاحب مال ليطلب ولداً يرثه. ثالثاً: لا يليق برجل صالح عابد أن يسأل الله ولداً لمجرد أن يرث المال، فكيف يليق ذلك بزكريا صلوات الله وسلامه عليه. فماذا كان الميراث إذاً؟ الجواب: هو ميراث النبوة والعلم، ولذلك قال: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾، فلم يتميز آل يعقوب بالأموال وإنما تميزوا بالنبوة فيعقوب نبي وولده يوسف نبي ومن نسله موسى نبي عليهم السلام، ومن نسله الأسباط أنبياء، وداود وسليمان، فهو يريد ميراث النبوة وليس المال، ثم بنو إسرائيل هم آل يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل فهل يُعقل أن آدمياً يقول: أريد ولداً يرثني ويرث من بني إسرائيل وكم هم بنو إسرائيل؟ هم ألوف؛ عشرات الألوف، بل ملايين، فكيف يقول يرثني ويرث من آل يعقوب؟! هذا لا يُعقل أن يكون ميراث المال. البشارة بيحيى عليه السلام: قال تعالى: ﴿يَازَكَريَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ ٱسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ فوجئ زكريا بهذه الإجابة السريعة ﴿ٱسْمُهُ يَحْيَى﴾ سميناه لك أيضاً ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ لم يتسمَ أحد بهذا الاسم من قبل ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ هو لا يخبر اللهَ بشيء لا يعلمه الله، فالله يعلم أن امرأته عاقر وأنه بلغ من الكبر عتياً، بل هو صرح بذلك في بداية الأمر عندما قال: ﴿وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا﴾ وقال: ﴿وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ لكنه استغرب هذه الإجابة على الرغم من أنه طلب ذلك فالمفروض أنه في انتظار الإجابة، قال: ﴿كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ فهو هين على الله ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فهو سبحانه لا يحتاج لأسباب ومقدمات ﴿كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾، أتريد الدليل على هذا؟ ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ إذاً انتهى الأمر ﴿قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِي آيَةً﴾ علامة يعلم بها أن امرأته ستحمل وأنها علقت بهذا الجنين، ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ فهذه علامة، سيأتيك يوم تفجأ فيه وأنت صحيح البدن والجوارح ويمتنع لسانك من الكلام، فإذا رأيت هذا اليوم الذي تعجز فيه عن النطق وعن كلام الناس فسيكون معنى هذا أن زوجتك حملت بهذه النطفة، وسيكون ذلك في ثلاثة أيام بلياليهن. وذهبت الأيام وحملت امرأته وامتنع لسانه ولم يستطع الكلام ولكنه يستطيع أن يُسَبِّح ويذكر الله، فذكر الله لم يُحبس لسانه عنه، وإنما حُبِسَ عن كلام الناس، وذلك كبعض الأعاجم اليوم يقرأ القرآن قراءة صحيحة ويحفظه عن ظهر قلب ولكن لا يحسن الكلام العربي ﴿وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . عند ذلك خرج من المحراب ودل هذا على أن أكثر وقته كان في المحراب، ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ﴾ والمحراب: هو المكان المخصص للصلاة في البيت أو المسجد أو العمل في أي مكان، أما هذا الذي في المساجد يسميه الناس الآن محراباً فاسمه الطاق ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ﴾ . ولادة يحيى عليه السلام: قال الله ليحيى بعد أن وُلِدَ: ﴿يَايَحْيَى خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ أعطاه الله الكتاب ﴿وآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ فأعطاه الله الحكم وهو صبي. ذُكِرَ أن يحيى عليه السلام جاءه غلمان من أصحابه في سنه فقالوا له: هيا بنا نلعب، فقال لهم: ما لهذا خُلقنا، لم نخلق للعب بل خُلقنا لعبادة الله، فتركهم ولم يلعب معهم، فالله آتاه الحكم صبياً، وقد مر الشعبي على أناس يلعبون فقال لهم: ماذا تصنعون؟ قالوا نلعب، قال: ما بهذا أُمرتم وإنما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَٱرْغَبْ﴾ . قال تعالى: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا﴾ أي: رحمة من عندنا ﴿وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مَريَم: 13-15]. وهناك كلام طيب جداً للحافظ ابن كثير رحمه الله عن هذه الآية وعن قول عيسى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ قال: «هذه الأوقات الثلاثة ــ وقت الميلاد، ووقت الموت، ووقت البعث ــ أشد ما تكون على الإنسان، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الأول بعدما كان ألفه وعرفه، ويصير إلى الآخر، ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخاً عندما يخرج من بطن أمه إذا خرج من بين الأحشاء، وفقد لينها وضمها» فقد كان يعيش في محيط معين يعرفه في بطن أمه، وأول خروجه تتغير عليه الأمور فيخاف مِنْ هذا العالم الجديد لماذا أُخرجت من هذه الضمة الطيبة؟. قال: «ثم ينتقل إلى هذه الدار الدنيا ليكابد همها وغمها، وكذلك إذا فارق هذه الدار الدنيا وانتقل إلى عالم البرزخ ــ دُفِنَ في قبره ــ بينها وبين دار القرار ــ فهذا البرزخ وسط بين الدنيا والآخرة ــ وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الأموات سكان القبور، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور، فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور، وما بين جبير وكسير، وفريق في الجنة وفريق في السعير»([4]). فيحتاج يوم يموت أن يسلم في هذا الوقت، إذا سلم في هذا الوقت سلم في اليوم الذي بعده، ولذلك كان عثمان بن عفان إذا ذَكر القبر بكى، وإذا ذُكرت الآخرة لا يبكي كبكائه عند ذكر القبر، فقيل له: لماذا تبكي عند ذكر القبر أكثر من ذكر الآخرة؟ فقال: من نجى في هذا نجى في ذاك، ومن هلك في هذا هلك في ذاك. إذاً يحتاج الإنسان السلامة من الله يوم يولد، وكذلك يحتاج السلامة حين يموت وكذلك يحتاج السلامة يوم يُبعث حياً وذلك يوم النشور، وهم فريق في الجنة، وفريق في السعير: ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً فأنت تُولد تبكي والناس حولك يضحكون، فهم سيبكون عليك حين تموت، ولكن ليكن يوم هُمْ يبكون أنت تضحك مسروراً؛ لأنه إذا خرجت هذه الروح تلقتها ملائكة الرحمٰن يبشرك الله بروح وريحان ورب راضٍ غير غضبان في جنات تجري من تحتها الأنهار. ويقول الحافظ ابن كثير: «ولما كانت هذه المواطن أشق ما تكون على ابن آدم؛ سلَّم الله على يحيى في كل موطن من هذه المواطن»([5]). وذكر الله قصة يحيى عليه السلام في مكان آخر كما في آل عمران قال جل وعلا: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ ٱللَّهِ﴾ [آل عِمرَان: 37-39]، ما الكلمة؟ إنها «كن». ثم قال: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾ وأما السيادة فهي سيادة النبوة، وأما الحصور فقد قال أكثر أهل العلم الحصور هو: العفيف المحافظ على فرجه الذي لا يأتي الحرام أبداً، وهنالك قول آخر أن الحصور هو: الذي لا يستطيع أن يجامع النساء، أي: «عنين» وهذا خطأ لأن هذا لا يُمدح به الإنسان، بل عيب يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق بسببه، وإنما يُمدح الإنسان الذي يستطيع أن يأتي النساء، ولكن يمتنع عن ذلك يريد رضا الله عز وجل. قال زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ هناك ثلاث ليالٍ وهنا أيام فهي ثلاثة أيام بلياليها. ﴿وَٱذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلْإِبْكَارِ﴾ وقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ﴾ يقول جل وعلا: ﴿فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ﴾ . قال أهل العلم: إصلاح الزوجة هنا؛ لأنها كانت لا تحيض لكبر سنها، وكانت عاقراً فأصلحها الله فحاضت وقال البعض: كان فيها أذىً لزكريا وفيها عسارة تؤذيه بلسانها فأصلحها الله فصارت هينة لينة معه، ولكن أكثر أهل العلم على أن إصلاحها كان بحيضها. من أسباب استجابة الدعاء: قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ يبين الله لنا السبب الذي لأجله استجاب الله دعاءه، وكأنه سبحانه يقول لنا: من أراد أن يستجيب الله له كما استجاب الله دعاء زكريا فليكن مثل زكريا ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، فلا يمكن أن يعصي الإنسان بالليل والنهار ثم يقول سألت الله فلمْ يستجب لي، كما قال النبي ﷺ وقد ذكر الرجل: «يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب له؟»([6]). ابنا الخالة: وعيسى ابن خالة يحيى كما قال النبي ﷺ في حديث الإسراء قال: «فرأيت ابني الخالة عيسى ويحيى»([7])، وكانا في زمن واحد، أم يحيى أخت مريم، وإما أن تكون خالة مريم فالله أعلم بذلك، المهم أن يحيى وعيسي كانا في زمن واحد واستمرت دعوتهما معاً صلوات الله وسلامه عليهما حتى مات يحيى ورُفِعَ عيسى. خمس كلمات: قال النبي ﷺ: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطء في التبليغ فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن أنا. قال يحيى: إني أخشى إن سبقتني أن أُعذب أو يُخسف بي فلا تفعل أنا أُبلغ. فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك مثل من اشترى عبداً من خالص ماله بوَرِق([8]) أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه قِبَل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجدوا ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: هل لي عندكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى افتدى نفسه، وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن به». قال رسول الله محمد ﷺ: «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: بالجماعة، وبالسمع والطاعة، والهجرة في سبيل الله تبارك وتعالى، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع الإسلام من عنقه إلى أن يرجع، ومن دعى بدعوي الجاهلية فهو من حثالة جهنم» قالوا: يا رسول الله وإن صلى وإن صام؟ قال: «وإن صلىٰ وإن صام وزعم أنه مسلم، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله سبحانه وتعالى المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل»([9]). قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام: بعد ذلك لم تستمر دعوة يحيى كثيراً صلوات الله وسلامه عليه وقد كان في سن الشباب، فقد قرر ملكهم في ذلك الزمان أن يتزوج إحدى محارمه: خالته أو عمته أو بنت أخيه أو بنت أخته، لا يُعْلَم لكنها من محارمه التي يحرم عليه أن يتزوجها فسُئِلَ يحيى عن ذلك فقال: «حرام هي لا تحل له» وكانت المرأة تريد الملك، فجاءت الملك في يوم من الأيام حتى أغرته وصار هيناً ليناً معها، فقالت: أريد منك شيئاً واحداً، قال: كل ما تريدينه أُعطيك إياه، ماذا تريدين؟ قالت: أريد رأس يحيى!! قال: أو غير ذلك.اطلبي غيره، قالت: ليس إلا ذلك، ما أريد إلا رأس يحيى، هذا مهري منك، وعندها أطرق قليلاً ثم قال: لكِ ذلك، ثم أمر بيحيى صلوات الله وسلامه عليه، فقُتِلَ وقُدِّمَ رأسه صلوات الله وسلامه عليه مهراً لتلك البغيِّ. قتل زكريا عليه السلام: وأما والده زكريا فالمشهور أنه قُتِل أيضاً كما قال الله تبارك وتعالى في وصف بني إسرائيل أنهم كانوا يقتلون الأنبياء فَذُكِرَ أنهم قتلوا زكريا صلوات الله وسلامه عليه في قصة مريم، وذلك لأنهم اتهموه بمريم فقتلوه لذلك بعد أن فَرَّ منهم. وعاشت بنو إسرائيل بعد ذلك فترة من الزمن زاد فيها انحرافها وذلك أن الانحراف كان متأصلاً فيهم، وكان كبراؤهم ينقسمون إلى خمسة أقسام: 1 ــ الصِدِّيقيون: وهؤلاء الذين كانوا بعكس اسمهم فهم الذين كانوا منغمسين في اللذات والشهوات. 2 ــ الفريسيون: فهم الذين كانوا يظهرون الزهد وحقيقة الأمر أنهم كانوا يبتزون أموال الناس. 3 ــ والرهبان: وهم عباد منقطعون غالبهم ضُلّال لا يعرفون كيف يعبدون الله تبارك وتعالى، وكان فيهم تنطع كثير في دين الله تبارك وتعالى كما قال عز وجل: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ٱبْتَدَعُوهَا﴾ . 4 ــ والكتبة: هم الذين كانوا يكتبون التوراة ويكتبون الأحكام ولكنهم كانوا يطلبون بها الدنيا على حساب الدين. 5 ــ والكهنة: وهم الذين يحرضون الفقراء بأن يقدموا النذور فيأكلوها هم. وهذا كله جاء في كتاب الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ ٱلْأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ . وقال جل ذكره: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ﴾ .
|
([1]) أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842).
([2]) أخرجه البخاري (3093)، ومسلم (1758، 1759).
([4]) «البداية والنهاية» (2/60).
([7]) أخرجه البخاري (3887)، وأخرجه مسلم (162).
([9]) أخرجه الترمذي في (2863)، وأحمد (4/130)، وهو صحيح كما في «صحيح الترغيب» (552).