مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [84]

5 ربيع الأول سنة 1330 هـ

أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم إنما كانوا يتعبدون بالنصوص، إذا كانت متمحضة للدين، مختصة بالشؤون الآخروية، كنصه صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ صوم شهر رمضان دون غيره، واستقبال القبلة في الصلاة دون غيرها، ونصه علىٰ عدد الفرائض في اليوم والليلة، وعدد ركعات كل منها وكيفياتها، ونصه علىٰ أن الطواف حول البيت أسبوع، ونحو ذلك من النصوص المتمحضة للنفع الآخروي.

أما ما كان منها متعلقا بالسياسة كالولايات والإمارات، وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، وتسريب الجيش، فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل علىٰ مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحا للبحث، ومجالا للنظر والاجتهاد، فكانوا إذا رأوا في خلافه، رفعا لكيانهم، أو نفعا في سلطانهم، ولعلهم كانوا يحرزون رضا النبي بذلك، وكان قد غلب علىٰ ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا تتعبد بالنص عليه، إذ وترها في سبيل الله، وسفك دماءها بسيفه في إعلاء كلمة الله، وكشف القناع منابذا لها في نصرة الحق، حتىٰ ظهر أمر الله علىٰ رغم عادة كل كفور، فهم لا يطيعونه إلا عنوة، ولا يخضعون للنص عليه إلا بالقوة، وقد عصبوا به كل دم أراقه الإسلام أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جريا علىٰ عادتهم في أمثال ذلك، إذ لم يكن بعد النبي في عشيرته صلى الله عليه وآله وسلم أحد يستحق أن تعصب به تلك الدماء عند العرب غيره، لأنهم إنما كانوا يعصبونها في أمثل العشيرة، وأفضل القبيلة، وقد كان هو أمثل الهاشميين، وأفضلهم بعد رسول الله، لا يدافع ولا ينازع في ذلك، ولذا تربص العرب به الدوائر، وقلبوا له الأمور، وأضمروا له ولذريته كل حسيكة، ووثبوا عليهم كل وثبة، وكان ما كان مما طار في الأجواء، وطبق رزؤه الأرض والسماء.

وأيضاً فإن قريشا خاصة والعرب عامة كانت تنقم من علي شدة وطأته علىٰ أعداء الله، ونكال وقعته فيمن يتعدىٰ حدود الله، أو يهتك حرماته عز وجل، وكانت ترهب من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتخشىٰ عدله في الرعية، ومساواته بين الناس في كل قضية، ولم يكن لأحد فيه مطمع، ولا عنده لأحد هوادة، فالقوي العزيز عنده ضعيف ذليل حتىٰ يأخذ منه الحق، والضعيف الذليل عنده قوي عزيز حتىٰ يأخذ له بحقه، فمتىٰ تخضع الأعراب طوعاً لمثله وهم: ﴿ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾  [التّوبَة: 97]، ﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾  [التوبة: 101]، وفيها بطانة لا يألونهم خبالاً.

وأيضاً فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا يحسدونه علىٰ ما آتاه الله من فضله، حيث بلغ في علمه وعمله رتبة ــ عند الله ورسله وأولي الألباب ــ قاصر عنها الأقران، وتراجع عنها الأكفاء، ونال من الله ورسوله بسوابقه وخصائصه، منزلة، تشرئب إليها أعناق الأماني، وشأوا تنقطع دونه هوادي المطامع، وبذلك دبت عقارب الحسد له في قلوب المنافقين، واجتمعت علىٰ نقض عهده كلمة الفاسقين والناكثين والقاسطين والمارقين، فاتخذوا النص ظهريا، وكان لديهم نسياً منسياً.

فكان ما كان مما لست أذكره   

                                    فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

وأيضاً، فإن قريشا وسائر العرب كانوا قد تشوقوا إلىٰ تداول الخلافة في قبائلهم، واشرأبت إلىٰ ذلك أطماعهم، فأمضوا نياتهم علىٰ نكث العهد، ووجهوا عزائمهم إلىٰ نقض العقد، فتصافقوا علىٰ تناسي النص، وتبايعوا علىٰ أن لا يذكر بالمرة، وأجمعوا علىٰ صرف الخلافة من أول أيامها عن وليها المنصوص عليه من نبيها، فجعلوها بالانتخاب والاختيار، ليكون لكل حي من أحيائهم أمل في الوصول إليها ولو بعد حين، ولو تعبدوا بالنص، فقدموا علياً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة، حيث قرنها يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب، إلىٰ يوم الحساب، وما كانت العرب لتصبر علىٰ حصر الخلافة في بيت مخصوص، ولا سيما بعد أن طمحت إليها الأبصار من جميع قبائلها، وحامت عليها النفوس من كل أحيائها.

لقد هزلت حتىٰ بدا من هزالها              

كلاها وحتىٰ استامها كل مفلس

وأيضاً، فإن من ألم بتاريخ قريش والعرب في صدر الإسلام يعلم أنهم لم يخضعوا للنبوة الهاشمية، إلا بعد أن تهشموا، ولم يبق فيهم من قوة، فكيف يرضون باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم وقد قال عمر بن الخطاب لابن عباس في كلام دار بينهما: إن قريشا كرهت أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة، فتجحفون علىٰ الناس.

والسلف الصالح لم يتسن له أن يقهرهم يومئذ علىٰ التعبد بالنص فرقا من انقلابهم إذا قاومهم، وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال، وقد ظهر النفاق بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقويت بفقده شوكة المنافقين، وعتت نفوس الكافرين، وتضعضعت أركان الدين، وانخلعت قلوب المسلمين، وأصبحوا بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية ووحوش ضارية، وارتدت طوائف من العرب، وهمت بالردة أخرىٰ، كما فصلناه في المراجعة (82)، فأشفق علي في تلك الظروف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة، وفساد العاجلة، والقلوب علىٰ ما وصفنا، والمنافقون علىٰ ما ذكرنا، يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وأهل الردة علىٰ ما بينا، والأمم الكافرة علىٰ ما قدمنا، والأنصار قد خالفوا المهاجرين، وانحازوا عنهم يقولون: منا أمير ومنكم أمير.. و.. و.. فدعاه النظر للدين إلىٰ الكف عن طلب الخلافة، والتجافي عن الأمور، علما منه أن طلبها والحال هذه، يستوجب الخطر بالأمة، والتغرير في الدين، فاختار الكف إيثارا للإسلام، وتقديما للصالح العام، وتفضيلا للآجلة علىٰ العاجلة.

غير أنه قعد في بيته ــ ولم يبايع حتىٰ أخرجوه كرها ــ احتفاظا بحقه، واحتجاجا علىٰ من عدل عنه، ولو أسرع إلىٰ البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين، فدل هذا علىٰ أصالة رأيه، ورجاحة حلمه، وسعة صدره، وإيثاره المصلحة العامة، ومتىٰ سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل، والأمر الجزيل، ينزل من الله تعالىٰ بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له، وأعود المقصودين عليه، بالقرب من الله عز وجل.

أما الخلفاء الثلاثة وأولياؤهم، فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها، ولا عجب منهم في ذلك بعد الذي نبهناك إليه من تأولهم واجتهادهم في كل ما كان من نصوصه صلى الله عليه وآله وسلم، متعلقا بالسياسات والتأميرات، وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، ولعلهم لم يعتبروها كأمور دينية، فهان عليهم مخالفته فيها، وحين تم لهم الأمر، أخذوا بالحزم في تناسي تلك النصوص، وأعلنوا الشدة علىٰ من يذكرها أو يشير إليها، ولما توفقوا في حفظ النظام، ونشر دين الإسلام، وفتح الممالك، والاستيلاء علىٰ الثروة والقوة، ولم يتدنسوا بشهوة، علا أمرهم، وعظم قدرهم، وحسنت بهم الظنون، وأحبتهم القلوب، ونسج الناس في تناسي النص علىٰ منوالهم، وجاء بعدهم بنو أمية ولا هم لهم إلا اجتياح أهل البيت واستئصال شأفتهم، ومع ذلك كله، فقد وصل إلينا من النصوص الصريحة، في «السنن» الصحيحة، ما فيه الكفاية، والحمد لله، والسلام عليكم. «ش».