أُرسل شعيب عليه السلام إلى مدين، والمشهور عند أهل التاريخ وأهل النسب أن مدين أحد أبناء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وقوم شعيب من نسل هذا الرجل؛ أي: من نسل مدين بن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

وذُكر نبي الله شعيب في كتاب الله تبارك وتعالى إحدى عشرة مرة، أُرسل إلى أهل مدين، في مكان يُقال له: معان، في الأردن، قريب جداً من قرية قوم لوط عليه السلام.

والمشهور في لقبه: أنه خطيب الأنبياء، وذلك لحسن مراجعته لقومه، وظهوره بحجته عليهم، ودحضه لشبهاتهم.

لم يذكر الله ــ جل وعلا ــ المعجزة التي أُرسل بها شُعيب، ولكن بيّن أنه أُرسل ببينة من ربه، كما أُرسل غيره من الأنبياء، ولكن كما ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ بحيث يذكر لنا كل نبي، ومعجزته، وأولاده، وزوجته، وبلده، وغير ذلك، ولكنه كتاب هداىة وبىان، وهو ىوضح لنا أن شعىباً نبيٌ، وأنه أُرسل إلى قومه، ودعاهم إلى الله كما دعا غيره من الأنبياء، وأن هناك من تابعه، وهناك من صدَّ عنه، وكفَر به، ثم كيف أظهر الله تبارك وتعالى الحقَّ، وأبطل الباطل، فيَعْتَبر الناس من ذلك، هذا هو المقصود من ذكر قصص الأنبياء؛ ليعتبر من يعتبر، وليتسلى المؤمنون بهذا الأمر، وليعلموا علم اليقين أن العاقبة للتقوى.

شعيب عليه السلام يدعو قومه وينصح لهم:

أُرسل نبي الله شعيب ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ إلى أهل مدين، وقد اشتهروا بأنهم:

أولاً: كفروا بالله ــ جل وعلا ــ.

ثانياً: يقطعون السبيل.

ثالثاً: يبخسون المكيال والميزان.

 أما كفرهم: فالمشهور أنهم كانوا يعبدون شجرةً يُقال لها: الأيكة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلْأَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾، والأيكة نوع من أنواع الشجر، يسجدون له، ويسألونه من دون الله ــ جل وعلا ــ.

ثم كذلك كانوا يقطعون السبيل على الناس ويأخذون أموالهم، وقيل: كانوا يأخذون العُشر من الناس، كلما مر رجل بتجارة قالوا له: ما تمرُّ من عندنا حتى تدع شيئاً من أموالك، وهي ما يُسمى الآن بالجمارك، وكانوا يطففون في الكيل، قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُوا عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾، فإن كان الكيل لهم أخذوا الزيادة، وإن كان عليهم أنقصوا.

وكانوا يُفسدون في الأرض بشتى أنواع الفساد كما أطلق الله ــ جل وعلا ــ، وكانوا يصدون عن سبيل الله، قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾، وقال لهم كذلك: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ﴾، حذرهم نبي الله شعيب من كل هذه الأفعال المشينة، ثم قال لهم: ﴿َقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾، قال أهل العلم في تفسير (بقية الله) أي: ما فَضُلَ من الربح ــ ولو كان قليلاً ــ خيرٌ من الربح الكثير إذا كان في حرام، قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿لَا يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ﴾، فالمال الحلال ــ ولو كان قليلاً ــ هو خيرٌ وأبقى عند الله ــ جل وعلا ــ من المال الحرام ولو كان كثيراً، قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَا وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ﴾  .

دعوة جميع الأنبياء إلى التوحيد وطريقتهم في ذلك:

دعوة شعيب ليست غريبة وإنما هي دعوة سائر الأنبياء، الدعوة إلى توحيد الله ــ جل وعلا ــ ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِنْدَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَامُ﴾، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾   كل الأنبياء إنما جاؤوا لتحقيق هذه القضية العظيمة، أن يعبد الله سبحانه وتعالى وحده قال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا أَنَا فَٱعْبُدُونِ﴾   هذه دعوة جميع رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، بل لأجلها قامت السماوات والأرض، ولأجلها كانت الجنة والنار، ولأجلها خلق الله العالمين ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾  .

طرق شعيب في دعوته:

أولاً: الدعوة بالحسنى كما قال عنه ــ جل وعلا ــ: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾  .

ثانياً: القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله ــ جل وعلا ــ فقال: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾   وهكذا يجب على الداعي إلى الله ــ جل وعلا ــ أن يكون قدوة، ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، ما أنهاكم عن شيء ثم آتيه ولا آمركم بشيء ثم أتركه، بل أنا ملتزم بما أدعوكم إليه.

ثالثاً: الترغيب والتذكير بنعم الله ــ جل وعلا ــ فقال: ﴿وَٱذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾   فرغبهم في حسن عطاء الله لهم سبحانه وتعالى، كنتم قليلاً فكثركم سبحانه وتعالى.

رابعاً: استخدم الترهيب، فقال لهم: ﴿وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾  .

خامساً: دعاهم كذلك إلى أصلين عظيمين:

الأصل الأول: عبادة الله ــ جل وعلا ــ.

الأصل الثاني: الوفاء بالحقوق، وعدم ظلم الناس، وعدم أخذ أموالهم بالباطل.

سادساً: بيّن لهم أنه لا يريد أجراً على هذه الدعوة أبداً ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾  .

سابعاً: بيّن لهم شرف مقصده صلوات الله وسلامه عليه فقال: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَاحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ﴾   لا أريد مُلكاً، ولا مالاً، ولا جاهاً ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَاحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ﴾ و«إن» هنا نافية بمعنى «ما».

وقوله صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾   ماذا يقصد بهذا؟ قال أهل العلم بالتفسير: وما قوم لوط منكم ببعيد من حيث المكان، معان قريبة من سديم «بلد لوط»، وقيل: من حيث الزمان، ولذلك في كتاب الله ــ جل وعلا ــ في سورة هود والشعراء والحجر، وغيرها بعدما يذكر الله تبارك وتعالى قصة قوم لوط يذكر بعدها مباشرة قصة مدين، إذاً هم ليسوا بعيدين بالمكان وليسوا بعيدين كذلك بالزمان، فهم قريبون مكاناً وقريبون زماناً ثم كذلك هم قريبون من حيث الصفات والأفعال والإجرام والإفساد، ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ وكيف صنع الله بهم، فأنتم ماشون على جادتهم وعلى طريقتهم فسيصيبكم مثل ما أصابهم.

قوم شعيب عليه السلام يردون دعوته بالسخرية والتكذيب:

وجاء الجواب من قومه: ﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾   مع أنه خطيب الأنبياء، أُوتي من الفصاحة والبلاغة وإقامة الحجة ورد الشبهات الشيء العظيم، ومع هذا يقول له قومه: ﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾، وهذا زور وبهتان منهم على نبي الله شعيب صلوات الله وسلامه عليه، وهو قريب مما قاله كفار مكة لرسول الله ﷺ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾   وقال لهم نبي الله شعيب صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾   إذاً هما طائفتان، طائفة آمنت بشعيب صلوات الله وسلامه عليه وطائفة أخرى لم تؤمن قال: ﴿فَٱصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ﴾   وهذا هو المطلوب، الصبر حتى يحكم الله، هذه دعوة شعيب لقومه صلوات الله وسلامه عليه فلننظر كيف كان رد قومه عليه:

أولاً: السخرية والاستهزاء، قالوا له: ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ﴾   يستهزئون، ويسخرون منه، صلوات الله وسلامه عليه، ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ نترك الأيكة التي كان يعبدها آباؤنا، أصلاتك تأمرك بهذا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، أتمنعنا من أكل أموال الناس بالباطل، أتمنعنا من البخس، أتمنعنا من المكوس، أتمنعنا من السرقة؟! دعنا نفعل في أموالنا ما نشاء، ثم قالوا له كلمة: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ﴾   يريدون السخرية منه صلوات الله وسلامه عليه.

ثانياً: التهديد بالنفي والرجم: ﴿قَالَ ٱلْمَلَأَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾   وقالوا له كذلك: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾  .

ثالثاً: اتهموه بالسحر، فقالوا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ﴾  .

رابعاً: الكذب، فقالوا: ﴿وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ﴾، ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾  .

سادساً: حاولوا صد الناس عنه، قالوا: ﴿لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾  .

وفي قولهم: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾   تحتاج إلى وقفة؛ لأن معنى هذا أن رهط شعيب كانوا سينصرونه فيما لو أراد الكفار أن يضروه، وهذا كما وقع من رهط النبي محمد ﷺ إذ كانوا ينصرونه ويدفعون عنه، وكان أبو طالب يدافع عن النبي ﷺ أشد الدفاع بل لما مات أبو طالب تعرض النبي ﷺ للأذى من قريش أكثر مما كان يتعرض له زمن أبي طالب كانت قريش تذهب لأبي طالب وتقول له: امنع ابن أخيك، وكان يقول لمحمد ﷺ:

واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم               حتى أُوَسَّدَ في التراب دفيناً

أدفع عنك وإن كنت لست على ديني ولكني أدفع عنك حمية، يحامي عن النبي ﷺ ولما خرج النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين إلى شعب أبي طالب ثلاث سنوات؛ خرج معه الكفار من بني هاشم والكفار من بني المطلب، عدا عم النبي ﷺ أبي لهب، هذه العصبية القبلية قد تنفع، وقد تكون طيبة ويستفيد منها المؤمن، ولكن لا يجوز أبداً أن ينادى بها وأن يقدم الكافر القريب في النسب على المؤمن البعيد في النسب، فتلك كما قيل: قرابة طين، وقرابة المؤمن للمؤمن: قرابة دين.

ولقد قال لهم نبي الله شعيب وهو يدعوهم إلى الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾   الداعي إلى الله ــ جل وعلا ــ يكون قدوة، بل هذه هي صفات الأنبياء والمرسلين وعكسها تماماً صفات الكافرين والمنافقين، قال نوح صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾   وقال الله لمحمد ﷺ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَاةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾   هذه صفات المتقين، وصفات الأنبياء، وأما أعداؤهم وأعداء الصالحين فقال الله لهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾   وقال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ ٱللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾   وقال النبي ﷺ: «يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيحملها ويدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال: بلى، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنتم أنهاكم عن المنكر وآتيه»([1])وذُكر أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما فقال: إني أريد أن أُذَكِّر الناس فقال له عبد الله بن عباس: إذا لم تخش أن تُفتضح بثلاث آيات فافعل وهي: ﴿أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾، ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ ٱللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾  ([2]).

وقد قيل:

يا واعظ الناس عما أنت فاعله            يا من يُعد عليه العمر بالنفس

احفظ لشيبك من عيب يدنسه                     إن البياض قليل الحمل للدنس

كحامل لثياب الناس يغسلها              وثوبه غارق في الرجس والنجس

تبغي النجاة ولم تسلك طريقتها                   إن السفينة لا تجري على اليبس

تهديد ووعيد:

قال الله تعالى على لسان قوم شعيب: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾   ابتلاء، نخرجكم من قريتنا أو تعودون في ملتنا.

وهنا قولهم: ﴿لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾   لا يعني أبداً أن شعيباً كان كافراً يوماً من الأيام أبداً، بل إن الله ــ جل وعلا ــ أعلم حيث يجعل رسالته، وما كان نبي من الأنبياء كافراً قط في يوم من الأيام، ولكنهم يريدون مَنْ مع شعيب ممن آمن.

قال لهم شعيب: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا﴾   ويتكلم هنا بلسان قومه الذين آمنوا به، وذلك أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإنه لا يخرج منها أبداً، ولذلك قال النبي ﷺ لخباب: «قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيُنشر بالمنشار نصفين من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه لا يرده ذلك عن دينه أبداً»([3])، وقال هرقل لأبي سفيان: «وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإنه لا يخرج منها أبداً»([4])، عبد الله بن حذافة لما طلب منه قيصر أن يترك دينه ويعطيه نصف ملكه أبى وقتل أمام عينيه بعض أصحابه فأبى أن يرجع عن دينه فلما أخذوه ليقتلوه دمعت عينه فقال قيصر: ردوه لعله يريد أن يكفر، فقال: ما لك بكيت؟ قال بكيت أنه لا نفس لي إلا واحدة وتموت وينتهي الأمر، وقد تمنيت أن لو تكون أكثر من نفس كلها تموت في سبيل الله ــ جل وعلا ــ.

شعيب يطلب النصر من الله:

قال شعيب عليه السلام: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ﴾   أي: انصرنا على قومنا، افصل بين الحق والباطل، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وقال: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾، فهلك قوم شعيب، وبعد هلاكهم مرَّ عليهم شعيب، خاطبهم وهم أموات كما خاطب النبي ﷺ أهلَ قليبِ بدر، وقال: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا قد وجدنا ما وعد ربنا حقاً»([5])، فقال شعيب: ﴿يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾  .

صنوف العذاب على أهل مدين:

ذكر الله ــ جل وعلا ــ أنه عذبهم بثلاثة أنواع:

النوع الأول: الرجفة.

النوع الثاني: الصيحة.

النوع الثالث: عذاب يوم الظلة.

قال الله تبارك وتعالى عن الرجفة: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾  .

وقال عن الصيحة: ﴿وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا ٱلصَّيْحَةُ﴾  .

وقال عن عذاب يوم الظلة: ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ﴾  . قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «أصابهم حرٌ شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه؛ أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة من السماء، فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح»([6]).

وهذه سنة الله ــ جل وعلا ــ مع أنبيائه وأتباعهم وأعدائهم، وذلك أن الله ــ جل وعلا ــ ذكر أن أنبياءه ينقسمون إلى قسمين في دعوتهم أقوامهم:

قسم من الأنبياء من يأمرهم الله بالجهاد ضد الطغاة، وهؤلاء ينصرهم الله في معاركهم ويهزم أعداءهم، كما قال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا ٱسْتَكَانُوا وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ﴾   وقال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ﴾   وقال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ﴾، ولنا في سيرة نبينا محمد ﷺ أعظم العبرة في هذا الأمر.

القسم الثاني: الذين لم يؤمروا بقتال الأعداء من الكفار، بل أُمروا بالصبر والصفح، وهذا القسم ينصره الله ــ جل وعلا ــ بهلاك عدوه كما فعل الله تبارك وتعالى مع نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وغيرهم، فإن الله تبارك وتعالى ينزل العذاب العام على أقوامهم.

وليس نبي الله شعيب هو صاحب موسى ــ كما يظن البعض ــ الذي زوّجه ابنته؛ لأن بين شعيب وموسى مئات السنين، إن لم تكن آلاف، فالمشهور أن شعيباً عليه السلام بعد لوط مباشرة، قريب وقته من وقت لوط عليه السلام.

واشتهر عند الناس كثيراً: «عسى عمرك عمر شعيب النبي»، والمشهور أن نوحاً صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان ذا عمر طويل، أما شعيب فلم يُذكر شيء من ذلك.

الدروس والعبر المستفادة من قصة شعيب عليه السلام

أولاً: أن الصبر والإيمان عاقبته النصر والنجاة كما فعل الله بشعيب ومن آمن معه.

ثانياً: مدة الظالم في الأرض قصيرة ــ وإن طالت فيما يظهر للناس ــ لكنها في النهاية قصيرة جداً.

ثالثاً: مِلَّةُ الكفر واحدة، فلو نظرنا إلى ردِّ قوم شعيب عليه، ثم إلى رد قوم لوط عليه، وقوم صالح، وقوم هود، وقوم نوح، وهكذا؛ لوجدنا أن ملةَ الكفر واحدة في ردها على أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

رابعاً: أن المعصية التي تقع من الإنسان، والتي لا يكون لها مبرر ولا داعي لها في نفسه أشدَّ عقوبة عند الله ــ جل وعلا ــ، وأشد جرماً، ولذلك قال النبي ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب عظيم، قال: ملكٌ كذاب، وعائل مستكبر، وشيخٌ زانٍ»([7])، فالملك لا يحتاج إلى الكذب، والغني المستكبر له دافع، والناس تريد رضاه، فيدفعه هذا إلى الكبر، أما الفقير لا دافع له، والشاب يزني؛ لأن عنده شهوة، أما الشيخ؛ فإما أنه ذاق الحلال أو ضعفت شهوته، ولذلك كان عذاب هؤلاء الثلاثة أشد من عذاب غيرهم.

وكذلك قوم شعيب: أغنياء ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾، ومع هذا يأخذون أموال الناس بالباطل، فصار عقابهم أشدَّ من عقاب غيرهم؛ لأنه لا داعي لأكل أموال الناس بالباطل كما فعلوا.

خامساً: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾   إذاً صلاته هي التي أمرته بهذا ﴿إِنَّ ٱلصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ﴾  .

سادساً: الداعية إلى الله يجب أن يكون قدوة، وهذا عمر رضي الله عنه لما كانت سنة المجاعة في زمنه؛ منع أهله، وقال: لا والله، لا يذوق أهل عمر الطعام حتى يذوقه الناس، ولا يأكل أهل عمر اللحم حتى يأكله الناس، حتى قيل: إنه صار في وجهه لون سواد من كثرة ما يأكل الزيت مع الخبز.

سابعاً: الأنبياء جميعاً بُعثوا للصلاح والإصلاح، إصلاح المجتمعات، وإصلاح ما بينهم وبين الله وإصلاح ما بينهم وبين الناس.

وأخيراً: من يدعو إلى الله تبارك وتعالى يحتاج أن يكون حليماً حسنَ الخلق مع قومه كما كان أمر شعيب صلوات الله وسلامه عليه.

 

([1])       أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

([2])      «تفسير ابن كثير» (1/249).

([3])      أخرجه البخاري (3612) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه.

([4])      أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773) من حديث ابن عباس ؟ت.

([5])      أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875) من حديث أنس رضي الله عنه.

([6])      «البداية والنهاية» (1/219).

([7])       تقدم تخريجه ص205.