قال - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه مسلم في صحيحه: «أفضل الصوم بعد رمضان شهرُ الله المحرم»، وسُئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «يُكفِّر السنة الماضية»؛ رواه مسلم، ولمَّا قدم النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينةَ مهاجرًا، وجد اليهودَ يصومون يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟»، قالوا: هذا يوم عظيم، نجَّى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله، فنحن نصومه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «نحن أحق بموسى منكم»، فصامه، وأمر بصيامه، وقال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومَنَّ التاسع والعاشر»، وفي لفظ: «صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، خالفوا اليهود» وفي رواية: «صوموا يومًا قبله، ويومًا بعده»([1]).

فينبغي للمسلم أن يصوم الأيام الثلاثة: اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر؛ ليحصل على فوائد متعدِّدة:

الأولى: أنه يُكتب له أجر صيام الشهر كله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وكان النبي ﷺ يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويأمُر بها.

الثانية: أن صوْم هذا الشهر أفضل الصوم بعد رمضان، كما نصَّ عليه الحديثُ المتَقَدِّم.

الثالثة: مخالفة اليهود بصوم التاسع والحادي عشر مع العاشر.

الرابعة: الاقتداء بالنبي ﷺ فقد صامه وأمر بصيامه، رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.

الخامسة: أنه يُكَفِّر ذنوب سنة كاملة، والمراد بها الصغائر بشرْط اجتناب الكبائر.

والصوم من حيث هو أجره غير محصور وغير محدود، قال ﷺ «كلُّ عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله - تعالى -: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به»([2])؛ وذلك لأن الصيام من الصبر، وقد قال الله – تعالى -: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]، والصوم في الشتاء غنيمة باردة؛ نهار قصير بارد، وأجر بلا تعب، كما أن الصوم في الصيف من أفضل الأعمال.

وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن يوم عاشوراء، فقال: ما رأيتُ رسولَ الله ﷺ صام يومًا يتحرى فضْله على الأيام، إلا هذا اليوم؛ يعني: يوم عاشوراء، ويوم عاشوراء له فضِيلةٌ عظيمة، وحُرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفًا بين الأنبياء - عليهم السلام - وقد صامَه نوح وموسى - عليهما السلام - وقد كان أهل الكتاب يصومونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه، وكان للنبي ﷺ في صيامه أربع حالات:

الأولى: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بالصوم؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي ﷺ يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه، فترك صوم عاشوراء، فمَن شاء صامه، ومَن شاء أفطره.

الثانية: أن النبي ﷺ لَمَّا قدم المدينة، رأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لَم يؤمر به، فصامه وأمر الناس بصيامه، وحثَّ عليه، حتى كانوا يصوِّمونه أطفالهم، كما في الصحيحين عن ابن عباس وغيره.

الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان، ترك النبي ﷺ أمْرَ الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه، وقد سبق حديث عائشة في ذلك، وأكثر العُلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد.

الرابعة: أن النبي ﷺ عزم في آخر حياته على ألا يصومَه مفردًا؛ بل يضم إليه يومًا آخر؛ مخالفةً لأهل الكتاب في صيامه، قال ابن القيم - رحمه الله -: فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يومٌ وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم، وكان طائفة من السلَف يصُومُون يوم عاشوراء في السفر منهم ابن عباس، وقالوا: رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ومن أعجب ما ورد في عاشوراء: أنه كان يصومه الوحش والهوام والنمل، ومن فضائلِه أنه يوم تاب الله فيه على قوم، ويتوب فيه على آخرين، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ وفيه حث على تجديد التوبة النصوح إلى الله - تعالى - في يوم عاشوراء، ورجاء قبول التوبة، فمن تاب فيه إلى الله - عز وجل - من ذنوبه، تاب الله عليه([3]).

اللهم تب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، ووفقنا لما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين.

 

 

([1]) أخرجه أحمد وغيره، وفي سنده ابن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ؛ (انظر: "زاد المعاد"، لابن القيم 2/69 بتحقيق الأرناؤوط.

([2]) متفق عليه.

([3]) انظر: "لطائف المعارف"، لابن رجب، ص 45 - 53، و"زاد المعاد"، لابن القيم، جـ 1، ص 349.