مَعركةُ نهَاوندَ
19-03-2023
مَعركةُ نهَاوندَ (٢١هـ):
كان المُسْلِمون ثلاثين ألفاً بقيادةِ النُّعْمَـانِ بنِ مُقَرِّنٍ، وكانَ الفرسُ قد تحصَّنوا ولَـمْ يخرجوا لقتالِ المُسْلِمينَ، وتكلَّمَ طليحةُ الأسَدِيُّ فقالَ: إني أرَىٰ أنْ تبعثَ سريةً فتحدِّقَ بهم، ويناوشوهم بالقتالِ ويحمشوهم([1])، فإذا برزوا فليفروا إلينا هُرَّاباً، فإذا استطردوا وراءَهم وانْتَهَوْا إلينا عَزمْنَا أيضاً علىٰ الفرارِ كُلُّنَا، فإِنَّهم حينئذٍ لا يَشكّونَ في الهزيمةِ، فيخرجون مِن حُصونهم عن بَكرةِ أبيهِم، فإذا تكاملَ خروجُهم رَجعْنا إليهم فجالدناهم حتّىٰ يقضيَ اللهُ بيننا.
فاستجادَ النَّاسُ هذا الرأيَ، وأَمَّرَ النُّعَمـانُ علىٰ المجردة القعقاعَ بنَ عَمْرٍو، وأمرهم أنْ يذهبوا إلىٰ البلدِ فيحاصروهم وحدَهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم. ففعل القعقاعُ ذلك، فَلمَّـا برزوا مِن حُصونهم نكصَ القعقاعُ بِمَنْ معه فاغتنمها الأعاجمُ، ففعلوا ما ظَنَّ طليحةُ، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم ولَـمْ يبقَ بالبلدِ مِنَ المقاتلةِ إِلَّا مَنْ يحفظُ لهمُ الأبوابَ، حتّىٰ انتهوا إلىٰ الجيشِ، والنُّعْمَـانُ بنُ مُقَرِّنٍ علىٰ تعبئتهِ. وذلك في صدرِ نهار جُمُعَةٍ، فعزم النَّاسُ علىٰ مصادمتِهم، فنهاهمُ النُّعْمَـانُ وأمرَهم أنْ لا يُقاتِلوا حتّىٰ تزولَ الشَّمسُ، وتَهِبَّ الأرواحُ، وينزلَ النَّصْرُ كمـا كانَ رَسُولُ الله يفعلُ. وأَلَحَّ النَّاسُ علىٰ النُّعْمَـانِ في الحملةِ فلم يفعلْ ــــ وكانَ رَجُلاً ثَابِتاً ــــ، فَلمَّـا حانَ الزوالُ صلىٰ َبالمُسْلِمين ثُمَّ ركبَ برذوناً له أحوىٰ([2]) قريباً مِنَ الأرضِ، فجعلَ يَقِفُ علىٰ كُلِّ رايةٍ ويحثُّهم علىٰ الصبرِ ويأمرُهم بالثباتِ، ويقدم إلىٰ المُسْلِمين أنه يُكبِّرُ الأولىٰ فيتأهبَ النَّاسُ للحملةِ، ويُكبِّرُ الثانيةَ فلا يبقَىٰ لأحدٍ أهبة، ثُمَّ الثالثةَ ومعها الحملةُ الصَّادِقةُ.
ثُمَّ رجعَ إلىٰ موقفهِ، وتعبأتِ الفُرْسُ تعبئةً عظيمة، واصطفوا صُفُوفاً هائلةً في عَدَدٍ وعُدَدٍ لَـمْ يُرَ مثلُها، وقد تغلغلَ كثيرٌ منهم بعضهم في بعضٍ، وألقوا حسكَ الحديدِ وراءَ ظهورِهم حتّىٰ لا يمكنهمُ الهربُ ولا الفرارُ، ولا التحيزُ. ثُمَّ إنَّ النعمـانَ بنَ مُقَرَّنٍ رضي الله عنه كَبَّرَ الأولىٰ وهَزَّ الرايةَ فتأهبَ النَّاسُ للحملةِ، ثُمَّ كَبَّرَ الثانيةَ وهَزَّ الرايةَ فتأهبوا أيضاً، ثُمَّ كَبَّرَ الثالثةِ وحملَ وحملَ النَّاسُ علىٰ المشركينَ، وجعلتْ رايةُ النعمانُ تنقضُّ علىٰ الفُرْسِ كانقضاضِ العقاب([3]) علىٰ الفريسةِ، حتّىٰ تصافحوا بالسيوفِ فاقتتلوا قِتَالاً لَـمْ يُعْهَدْ مثلُهُ في موقفٍ مِنَ المواقفِ المتقدمة، ولا سمعَ السامعون بوقعةٍ مثلها، وكتب اللهُ النصرَ للمُسْلِمين.
([2]) «الأحوىٰ»: الذي اشتدّ احمرارُه حتّىٰ قربَ مِنَ السّوادِ. «لسان العَرَب» (١٤/٢٠٦).