بَابٌ مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ
04-03-2023
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَاسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ الله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ فِي صَوْمِ العَشْرِ: لاَ يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ أخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرِ الله الإِطْعَامَ إِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
حّدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ ل تَقُولُ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ.
قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
الشرح:
هنا المؤلف ذكر مسائل:
- المسألة الأولى: لا بأس أن يقضي قضاء رمضان بالتفريق أو بالتتابع وهذا قول ابن عباس لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. ولم يقل متتابعة وهو الصحيح.
2 - قول سعيد بن المسيب في صوم العشر:
لا يصلح حتى يبدأ برمضان. نقول المراد بالعشر هنا عشر ذي الحجة أنها لا تصام حتى يقضي رمضان- والمقصود التسع الأيام الأولى من ذي الحجة إلا يوم العيد فإنه لا يصام وهذا من باب التغليب- يعني معنى كلام سعيد لابد من البدء بالفرض، وهذا الكلام من سعيد بن المسيب يحتمل أمرين:
(1) يحتمل أنه لا يصوم العشر بنية القضاء فيجمع بين القضاء وبين ونه متنفلًا في العشر.
(2) ويحتمل أنه لا يصوم العشر على وجه النفل وهو لم يقض رمضان وأصل المسألة مسألة التنفل القضاء أصلها فيها خلاف مشهور:
1 - فذهب بعض أهل العلم ومنهم الأصحاب الحنابلة «أنه لا يجوز للإنسان إذا كان عليه أيام من رمضان أن يتنفل بل يجب عليه أن يبدأ بالفرض وقالوا: إن تنفل فإن صومه باطل وغير صحيح».
2 - وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان عليه قضاء من رمضان فله أن يتنفل وقالوا: إن وقت الفرض موسع، وحديث عائشة يدل عليه أنها ما كانت تقضي رمضان إلا في شعبان، والصحيح في المسألة: أنه ينبغي البداءة بالفرض؛ أما إن بدأ بالنفل فالصحيح أن النفل صحيح، مثاله: النافلة بين يدي الفريضة في الصلاة فإن الإنسان إذا دخل وقت الفريضة فإنه يتنفل بين يدي الفريضة وهذا نفل قبل الفريضة وقد دخل وقت الفريضة وقد بدأ خطاب الشارع بأدائها.
وأما المسألة الثانية في أحد الوجهين في صوم العشر عن سعيد بن المسيب: يعني أنه يصوم العشر بنية القضاء وبنية حصول النفل فهذا يروى عن علي - رضي الله عنه - أنه نهى عن القضاء في العشر وأشار إليه المصنف: وروي بإسناد أصح منه عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر وهذا مبني على مسألة التداخل، وهذا الإسناد لا بأس به عن عمر وهو يجري مجرى التداخل بين الفرض والنفل، فإن الإنسان إذا صام قضاء رمضان في أيام العشر بنية القضاء وخصول أجر النفل في الأيام العشر فأصح الأقوال في هذا أنه جائز وهذه من مباحث التداخل بين الفرض والنفل وهي مسألة لطيفة قد ألفت فيها مصنفات وقول عمر هذا لا بأس به، وفيه رد على من منع من ذلك وفيه استيعاب العشر بالصيام وهو متفق عليه بين العلماء والمراد تسع ذي الحجة.
مسألة: المؤلف أيضًا تعرض إلى مسألة الإطعام إذا أفرط في القضاء حتى جاء رمضان آخر وهو لم يقض هل يطعم مع القضاء؟
الجواب: صح عن ثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم -: أبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه من فرط حتى يأتي رمضان آخر فإنه يقضي ويطعم وظاهر القرآن كما في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لم يذكر الله الإطعام كما أشار المصنف إليه وهو اختياره ولهذا علق عن إبراهيم النخعي قال: إذا فرط حتى جاء رمضان آخر فإنه يصومها أي الشهر الحالي ثم بعد ذلك يقضي الماضي ولم ير عليه إطعامًا. وهذا هو الصحيح في المسألة؛ لأن ظاهر القرآن ليس فيه إطعام، وأما فتيا الصحابة الثلاثة - رضي الله عنهم - فقد يقول قائل هذا من باب التفقه ونحن لا نعلم أن هذا من الأمور التي لا للاجتهاد مجال فيها فقد يكون هذا من الصحابة الثلاثة من باب التفقه، وأن هذا الإنسان إذا فرط في القضاء حتى دخل عليه رمضان آخر وهو لم يقض أنه عليه القضاء والإطعام وهذا عنهم من باب التعزيز وهذا للاجتهاد فيه مدخل، والصحيح أنه ليس عليه إطعام وهذا اختيار ابن عثيمين.
وأيضًا من الأوجه التي نر فيها زيادة الإطعام مع القضاء: أنه هو سوف يأتي بالصيام وإنما الإطعام في الحقيقة بدل عن الصيام فلا يجمع بين البدل والمبدل منه.
الحديث الثاني: حديث عائشة، هذا الحديث عند مسلم من طريق ابن جريج عن يحيى وفيه (فظننت أن هذا لمكانتها عند النبي - صلى الله عليه وسلم - منه) وكذلك عنده من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بلفظ (إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله فما تقدر أن تقضيه مع رسول الله حتى يأتي شعبان) ففي هذا أنه ليس عائشة وحدها التي كانت تفعل هذا بل أزواج النبي كلهن أو كثيرًا من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الفوائد:
1 - أنه لا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى أن يأتي رمضان آخر إذ لو كان هذا جائز لما كان في إخبار عائشة بأنها تقضي في شعبان قبل دخول رمضان الآخر فائدة وهذا التأخير صوم رمضان حتى يأتي رمضان آخر من جنس تأخير الصلاة إلى أن يدخل وقت الأخرى وهذا ممنوع وحتى لا تتراكم العبادات على فيشق عليه فعلها.
2 - أن قضاء رمضان على التراخي ليس على الفور؛ لأننا لو قلنا على الفوز لكان معناه أنه من حين يفطر في عيد الفطر يجب عيه القضاء متتابعًا، وكلاهما الصحيح خلافه فلا يجب القضاء على الفور ولا يجب سرده متتابعًا لكنه أفضل ولا شك في ذلك ومن حكمة الشارع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال فكأنما صام الدهر كله». فهذا تلطف من الشارع لكي يبادر العبد في قضاء رمضان في شوال ثم يصوم الست من شوال ويحصل هذا الأجر وهذا غاية التلطف من الشارع الحكيم وقيادة العباد إلى حسن التعبد لرب العالمين حيث يريد منهم أن يفرغوا من الواجبات بأقصر الطرق ويثيبهم على ذلك. فهل بعد هذه الحكمة من حكمة.
3 - صيام القضاء إذا تضايق وقته فلا يحتاج إلى إذن الزوج فإذا لم يبق من شعبان إلا عشرة أيام وكانت المرأة عليها صيام عشرة أيام ماضية فإنها لا تستأذنه وذلك لأنه الآن تعيّن عليها الصيام حتى لو استأذنت المرأة الزوج ورفض فلا تطعه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
مسألة:
لو أن امرأة أرادت أن تصوم قضاء رمضان في أوقت الموسع كما في محرم وصفر فهلا لابد من الاستئذان أم لا؟
الجواب: أما النفل فلا بد من الاستئذان وهذا واضح وجاءت به أحاديث ثيرة ولكن الفرض الواجب إذا كان وقته موسعًا هل تستأذن فيه؟
الجواب: قال بعض أهل العلم أن الفرض لا استئذان فيه إذ أنَّ الفرض واجب ولا خيار لفعل المرأة في هذا الصوم وقال بعضهم: إنه لما كان وقت الواجب موسعًا فيه كان لزامًا عليها الاستئذان؛ لأن الاستئذان ليس راجعاّ إلى فريضة وإنما هو راجح إلى المبادرة إلى الفريضة وحق الزوج الأصل فيه الوجوب وعلى الفور لتجدده فهو متعين عليها الآن ولا يكون القضاء متعينًا إلا حينما تبقى عدة هذا الصيام من شهر شعبان فهذا هو القول الراجح عندي في هذه المسألة وهو اختيار جماعة من العلماء كالشافعية وغيرهم وعليه إذا أرادت المرأة أن تصوم قضاء شهر رمضان والوقت موسع يجب عليها أن تستأذن زوجها؛ لأنها قد تباغته وهو يريدها فمن حسن العشرة الزوجية على الأقل أن تستأذنه وهي في سعة ولم يجب عليها القضاء الآن.
فإن قال قائل: أنه يلزم إذا كان هذا الأمر متعين وهو الاستئذان في الفرض أنه يلزم المرأة إذا دخل وقت الصلاة أن تستأذن زوجها في الصلاة بعد الدخول مباشرة ولو كان الوقت موسعًا؟
الجواب: نقول أنه ليس بلازم أن تستأذن المرأة زوجها في أداء الصلاة؛ لأن وقت الصلاة قصير ولا يمنع حق الزوج ثم لم ينقل أن المرأة كانت تستأذن زوجها في أداء الصلاة في أول الوقت بل هذا من التنطع في الدين لكونه لم ينقل، ولأن هذا حاجة يسيرة بإمكان الزوج أن يصبر إنما هي دقائق أما كون الزوج يصبر يومًا فهذا قد يكون متعسرًا.
4 - (وهذا خاصة برواية مسلم) عناية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيامهن بحقه بأتم وخير قيام: وهذا الذي يدل عليه ما أدرجه يحيى الأنصاري بالشغل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيامهم بحقه وهو الظاهر.
مسألة:
إن قال قائل: إن عائشة لا تتنفل قبل ذلك بشيء لا يوم عرفة ولا ست من شوال ولا غيره من النوافل؟
نقول: نعم هذا هو الظاهر، وعند عائشة أن هذا الظاهر عارضه شيء أولى منه وهو القيام بحق الزوجية.
فإن قال قائل: النبي عليه الصلاة والسلام عنده نساء كثير فمتى يأتي دور عائشة حتى يأتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان لها مندوحة أن تصوم.
نقول: إن من سنة النبي الثابتة أنه كان يدنو من نسائه كل يوم بعد العصر من غير مسيس وهذا لفظ أبي داود وقد جاء في بعض الألفاظ أنه كان يمس ويجامع فإنه قد يجامع أزواجه في ساعة واحد[1] فإنها لا تدري متى يأتي دورها فتقدم متعة الزوجية وحقها على النفل، فحينئذ عائشة لم تكن تصوم شيئًا قبل رمضان من النفل وقد يقال: أن عائشة كانت تصوم النفل وتأخر القضاء فالنقل إذا جاءها النبي قطعت هذا النفل وإذا لم يأتيها فهي على ما نوت وإن كنت أميل إلى أن عائشة لم تكن تتنفل أصلًا ولا بأس أن الإنسان يترك شيئًا من النفل إلى شيء أعظم منه؛ لأن بعض العبادات أعظم من الأخرى ولأن النبي إذا جاءها وهي صائمة فقد يستحي منها فلذلك قدمت حق النبي، ولا شك أن أداء حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من صوم النفل ولم ينقل عن عائشة ل أنها كانت تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيام النفل فالذي يظهر لي أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يضمن نفلًا لأجل حق النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[1] وقد بسطنا أحكام التعدد ومنها (وطء الزوجات في ساعة واحدة) في مؤلف مفرد.