حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى إذا بَلَغَ الكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ. قَالَ أَبو عَبْد الله: وَالكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ.

الشرح:
قوله: «حتى إذا بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس» نقول: المعروف أنه أفطر لما علم أن الناس قد شق عليهم الصيام فأطر ليراه الناس وجاء هذا في بعض ألفاظ حديث ابن عباس وجاء عند مسلم صريحًا من حديث جابر، وهذا شاهد لما تقدم من أن الإنسان المقتدى به يراعي غيره ولا ينظر إلى نفسه.
وفي هذا الحديث شاهد لما ترجم له المؤلف وهو «باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر» يعني أن رمضان دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، ووقع عند مسلم من حديث أبي سعيد أنه خرج في ثمانية عشر ولبعض الرواة تسعة عشر ولبعضهم اثنتى عشرة، والمشهور من السيرة أنه خرج لعشر مضين من رمضان ودخل مكة لتسع عشرة خلت من رمضان وكان في سفره تسع ليال وهذه هي المدة نفسها التي خرج فيها للحج فقد مكث تسعة أيام.

الفوائد:
1 - الخروج في رمضان وأنه لا كراهة في أن يسافر الإنسان في نهار رمضان.


2 - إنه إذا خرج وهو صائم فإن له الفطر على الصحيح لكن متى يفطر؟

قال بعضهم: بابُدَّ أن يخرج من البنيان وهذا هو الصحيح. وقال بعضهم: لا، بل إذا نوى السفر ولو كان في البلد فإنه يفطر وهذا غير صحيح واحتجوا على هذا بحديث أنس في السنن وحديث أبي بصرة الغفاري، والصحيح أنه ليس له الفطر حتى يخرج من البنيان وأما إذا كان في البلد فهو مقيم وليس مسافرًا وأما حديث أنس في السنن أنه خرج فنزل منزلًا آخر فدعا بسفرته فهو محتمل كما قال أبو محمد في «المغني»: أنه نزل منزل بقرب البنيان خارجًا عنها لا داخل البنيان وبكل حال فإن هذه الأحاديث لا تعارض ظواهر النصوص في الكتاب والسنة وأما حديث أبي بصرة فقط أفطر وهو يرى البنيان فهو انفصل عن البنيان وشرع في السفر فلا إشكال.
وفي هذا الحديث من الفوائد:

أن مراسيل الصحابة مقبولة فإن ابن عباس يخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة في رمضان ومعلوم أن ابن عباس كان مع أبيه بمكة وقد قيل أن العباس والد ابن عباس خرج وقابل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحليفة وقيل بالجحفة، ومراسيل الصحابة - الذين لم يدركوا هذا الحديث ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم في سن التمييز - حجة بالاتفاق كما قال الحافظ في مقدمة الإصابة.

مسألة:
هل يشترط أن يكون السفر الذي تباح به الرخص أن يكون سفرًا مباحًا، يعني إذا سافر سفرًا محرمًا هل تباح له الرخص أم لا؟
الجواب: قال بعضهم: أنه يشترط أن يكون السفر الذي تباح به الرخص أن يكون سفرًا مباحًا أما إذا سافر سفرًا محرمًا فإن رخص الله لا تستباح بالمعاصي.

والصحيح في هذه المسألة: أنه متى سافر سفرًا سواء كان معصية أو طاعة فإنه يستبيح الرخص الشرعية؛ لأن الجهة منفكة فهو يستبيح الرخص الشرعية؛ لأنه سافر ولكنه يأثم لأنه تعاطى ما حرم الله، وشيخ الإسلام: يجيز الترخص برخص السفر في السفر المحرم كالسفر المباح وهذا هو مشهور مذهب أبي حنيفة وأما المشهور من مذهب الحنابلة على أنه لا تستباح الرخص بالمعاصي فلو سافر سفرًا محرمًا ليس له أن يفطر ولا يمسح ثلاثة أيام ولا يقصر الصلاة ولا يجمع الصلاة وهكذا ولكن الصحيح خلافه.
فائدة تتعلق بهذا الحديث:

في حديث أبي سعيد عند مسلم قال: «سافرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلًا فقال: «إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم» فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلًا آخر فقال: «إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى فأفطروا «فكانت عزيمة فأفطرنا».
هنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفطر صريح، فهل سبب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم – الصحابة بالفطر هنا لأجل السفر أم لأجل مقابلة العدو؟

الجواب: لأجل مقابلة العدو؛ لأنه في المرة الأولى منهم من صام ومنهم من أفطر لكن ما دنوا من العدو أمرهم بالفطر ليتقووا بذلك على لقاء العدو ولهذا جاء عند مسلم من حديث جابر أنه قال لما بلغه أن بعض الناس صام: «قال: أولئك العصاة أولئك العصاة» وبهذه المناسبة لما وقع ما وقع من دخول التتار في دمشق في زمن شيخ الإسلام أفتى شيخ الإسلام الناس في مدينة دمشق بالفطر فأنكر عليه بعض الفقهاء وقالوا: هؤلاء ليسوا مسافرين ولا مرضى بل يجب عليهم الصيام.


فشيخ الإسلام: ناظرهم وأفحمهم واستدل بأمر النبي هذا قوله: «والفطر أقوى لكم» فالعلة أن الفطر أقوى لهؤلاء أما كونه وقع في سفر فهذه واقعة عين ليست قيدًا في الحديث فكان شيخ الإسلام يأكل التمر ويمشي بين الجند حتى يقتدوا به في ذلك فأفطروا وقاتلوا وانتصروا على الأعداء.