حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -:

أَنَّ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «الصُّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».

 الشرح:
هذا الحديث أيضًا أخرجه مسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال أبو هريرة رواية ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى رواية أي أنه يبلغ بالحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاء بالحديث وقال الصحابي: رواية أو قال: ينميه أو قال: يبلغ به أو يرفعه فهذه كلها من صيغ الرفع الحكمية وتأخذ حكم الرفع وفي هذا الحديث مصرح به أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله.

معاني المفردات:

الصيام جنة: الجنة هي الوقاية، والصوم جنة في الدنيا من الآثام، وفي الآخرة من النار.
الرفث: هو الجماع ودواعيه وقيل: ما يتعلق ببذاءة اللسان من رديء القول.

ولا يجهل: أي ولا يتعدى على أحد ولا يفعل فعل أهل السفه والجهل، والجهل هنا من الجهالة لا الجهل الذي هو ضد العلم ومن ذلك قول الشاعر:

ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
يعني لا يعتدي أحدٌ علينا فنعتدي عليه بأزيد مما اعتدى به علينا، والجهالة تطلق على المعصية لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]، فكل من عصى الله فهو جاهل.

قوله: «وإن امرؤ قاتله» المقاتلة هي المضارية.
«شاتمه»: أي واجهه بالسب.

فليقل: «إني صائم» ظاهر هذا اللفظ أنه يجهر به لقوله: «فليقل» وهذا خلافٌ لمن قال: إنْ كان الصوم فرضًا فإنه يجهر، وإن لكان الصوم نفلًا فليسَّره فهذا التفريق لا دليل عليه، ونقول: إنَّ الأصل في كلمة «قال» و «يقول» الجهر، وعلى ذلك فليقل جهرًا: إني صائم مرتين وجاء أيضًا أن يقولها مرة واحدة، وجاء أيضًا أن يقولها مرة واحدة، وجاء أيضًا أنه يقول: «إني امرؤ صائم» فهذا الذي حفظ في السنة وأما قول البعض: «اللهم إني صائم» فهذا لا نعلم أنه جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وفي قول الإنسان لمن سابه أو شاتمه: «إني صائم» فيه فوائد:

1 - فيه الانتصار النفسي للشخص حينما يقول لشاتمه: إني صائم فهذا فيه نوع انتصار واستعلاء عن المواجهة بمثل هذا الخنا والقبح.
2 - فيه توبيخ لهذا السابِّ والمقاتل.

وفي الحديث أيضًا: أن رائحة فم الصائم وهي خُلُوفُ فمه مع كون الإنسان ينفر منها ويكرهها؛ لأنها تشبه «البخر» وهو الداء المعروف فإنها عند الله أطيب من رائحة المسك لأنها ناتجة عن أثر عبادة عظيمة.
واستنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث كراهية الاستياك آخر النهار وهو وقت خروج هذه الرائحة الكريهة، فقال: ينبغي إبقاؤها لأنها محبوبة إلى الله.

والصحيح أن الأمر ليس كذلك؛ لأن السواك سنة مطلقة في أول النهار وآخره، وقد عقد المؤلف: بابًا ذكر فيه السواك للصائم وسوف يأتي الكلام عن هذا حينما يأتي هذا الباب.
وقد قيل: إن الرائحة تخرج وتنبعث من المعدة ولا علاقة لها بالسواك، وهذا فيه نظر؛ لأنه في الحديث قوله: «لخُلُوف فم الصائم» فالخُلوف في الفم ليس في غيره.

واستنبط بعض أهل العلم أنه في هذا الحديث يثبت لله صفة الشم، وقالوا: إن استطابة الروائح من الله تدل على اتصافه بهذه الصفة، ولكن قد يقال: إن هذا الحديث ليس بصريح في إثبات هذه الصفة، ومعلوم أن الصفات لابُدَّ في إثباتها أن تكون النصوص فيها صحيحة صريحة.

وأيضًا قد يكون إدراك الله لهذه الرائحة عن طريق العلم فإن الله يعلم بها، فيكون المعنى أن الله يعلم هذه الرائحة وهذا قول شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله -، وبكل حال نقول: إن دل الحديث على هذه الصفة فنثبتها لله - عز وجل -، وإن لم يدل عليها لا نثبتها وهذا القول الأخير هو قول شيخينا ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله.

وفي هذا الحديث: تفاضل الأعمال وأن بعض الأعمال أفضل من بعض.

مسألة: هل استطابة فم الصائم في الحال أو المآل؟
الجواب: قال بعضهم: إن الاستطابة تكون في الحال وأنها أطيب عند الله في الحال، وقال بعضهم: إن هذه مثل دم الشهيد؛ فإن دم الشهيد يوم القيامة يكون لونه لون الدم وريحه ريح المسك؛ فقالوا: هذا الحديث المطلق إنما يكون في يوم القيامة يأتي بهذه الرائحة ويكون عند الله أطيب من ريح المسك، والله أعلم.