قصة كليم الله موسى عليه السلام
26-02-2023
هو أعظم أنبياء بني إسرائيل، كليم الله، أحد أولي العزم من الرسل، النبي الرسول الكريم الذي ما ذُكر نبي في القرآن بعد رسول الله ﷺ أكثر من ذكره، حتى ورد ذكره في كتاب الله تبارك وتعالى ستاً وثلاثين مرة بعد المئة.
هو: موسى بن عمران من نسل يعقوب عليه الصلاة والسلام.
ذكره الله تبارك وتعالى كثيراً في كتابه العزيز، وجاء التفصيل في ذكره في أربع سور: في سورة البقرة، والأعراف، وطه، والقصص، وذُكِر في سور أخرى كثيرة.
أمته التي أرسل فيها هي أعظم الأمم بعد أمة نبينا محمد ﷺ، وهي أفضل الأمم في زمانها كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ﴾ أي: في زمانهم. وأمة نبينا محمد ﷺ خيرٌ منهم، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، كتابه التوراة التي خطها الله تعالى بيده.
السبب في كثرة ذكر موسى عليه السلام:
تكرر اسمه كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى مما يدلّ على أن الله يريد منا أن نتدبر أحواله، وما لاقى من المشاقِّ، والتعب، والأذى، والفتنة، حتى قال الله تبارك وتعالى له: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾، فَفُتِنَ موسى عليه السلام كثيراً كما سيأتي ذلك مفصلاً في حديثنا عنه صلوات الله وسلامه عليه.
وأُرسلَ موسى إلى أعتى ملوك الأرض في زمانه، ولعله كذلك أعتى ملوك الأرض بعد زمانه، أُرسل موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ في بني إسرائيل، وبنو إسرائيل أمَّةٌ سكنتْ مصرَ، ومكَّن الله لها في الأرض، وهم نسلُ يعقوب عليه الصلاة والسلام، فيعقوب هو إسرائيل.
بنو إسرائيل تسلط عليها فرعون الطاغية المتجبر أعتى ملوك الأرض، وأقدمهم عرشاً، وأثبتهم مُلْكاً، وأعرقهم مدينة، وأشدهم تعبداً للناس واستكباراً في الأرض، ادّعى الربوبية، وادّعى الألوهية، قال جلا وعلا عنه: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَى﴾، وقال كذلك: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلْمَلَأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرِي﴾، واستهزأ برسول الله موسى عليه السلام ، وادّعى أنه خيرٌ منه، فقال: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾، وهكذا ﴿فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ .
مَرَّ بنا في قصة يوسف عليه السلام أنه استقرّ هو وأبوه وإخوته في مصر، وكان ملوك مصر يعرفون ليوسف قدره، ومكانته، وفضله، وذلك أنه بفضل الله تبارك وتعالى أوَّلَ رؤيا الملك، وكان في تأوليه لتلك الرؤيا أن عمّ الخير على مصر دون سائر البلاد، وتميزت عن غيرها، وقد فرح به الملك كثيراً، حتى جعل يوسف عزيزاً على مصر ــ أي: وزيراً مقرباً ــ، وراحت سنون، وجاءت سنون أخرى حتى جاء فرعون آخر لمصر، وذلك أن كل ملك لمصر يقال له: «فرعون»، حتى جاء فرعون الذي يقال له: الوليد بن مصعب، وهو فرعون موسى عليه السلام، نَسي فضل يوسف، ولم يعرف لبني إسرائيل قدراً، وبلغه أن رجلاً من بني إسرائيل سيكون على يديه ذهاب مُلْكه، وذلك في رؤيا رآها أزعجته.
قال سعيد بن جبير: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال لي: استأنَفَ النهارُ يا ابن جبير ــ يعني: نحن الآن في وسط النهار ــ فإن لها حديثاً طويلاً فاتركني، يقول: فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأتنجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال ابن عباس: تذاكر فرعونُ وجلساؤه ما كان الله عز وجل وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك، وما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب عليهما السلام فلما هلك، قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فأتَمِروا([1])، فأتَمَروا وجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشِفار ــ أي: السكاكين ــ يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلّا ذبحوه، خوفاً من أن تصدق مقولة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ففعلوا ذلك فلمّا رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يُذبحون قالوا: تُوشِكون أن تُفنوا بني إسرائيل، فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً.
هكذا أمر فرعون بعد أن أشار عليه حاشيته بقتل الذكور فقتلوهم، ثمّ بعد ذلك صاروا يقتلون عاماً، ويتركون عاماً آخر؛ خوفاً من فناء بني إسرائيل الذين كانوا معبدين لخدمة القبط، فترك عاماً وقتل عاماً، قال سبحانه وتعالى: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ وكان لا يذبح الإناث؛ لأنه لا خوف من النساء في ذلك الزمان.
ميلاد موسى عليه السلام وخوف أمه عليه:
ولد موسى صلوات الله وسلامه عليه في العام الذي يُذبح فيه الأولاد الذكور، وولد هارون قبله في العام الذي ما كان يذبح فيه فرعون، فلما حملتْ أم موسى بموسى صلوات الله وسلامه عليه؛ خافت عليه؛ لأنه العام الذي يقتل فيه فرعون كل مولود ذكر، فماذا تصنع أم موسى؟ وكان الله تبارك وتعالى قد أخفى حملها، فلم تعلم القابلات([2])، لم يشْعُرْنَ بحملها، فلما وضعته خافتْ عليه خوفاً شديداً، ماذا تصنع به؟
قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ أمْرٌ من الباري ــ جلا وعلا ــ لأم موسى: اجعلي موسى في تابوت، واجعلي التابوت الذي هو الصندوق في النهر ــ نهر النيل ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾، فصنعت ما أمرها الله به، وذكر بعض أهل التفسير أنها كانت وضعته في التابوت، وربطت في التابوت حبلاً، فإذا جاء أتباع فرعون يسألون عن الأولاد؛ تركت التابوت يسير، والحبل مربوط، فإذا ذهبوا جرّت الحبل، وأخرجت موسى من التابوت، فذكروا أنهم جاؤوها يوماً، فوضعته في التابوت، ونسيت أن تربط الحبل، فلما رجعت إليه وإذا قد سار به الماء.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ أي: إذا وُلِدَ ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ يعني: من قتل فرعون له ﴿فَأَلْقِيهِ فِي ٱلْيَمِّ﴾، وهذا أمر عجيب، بدَل أن يقول لها: فإذا خفت عليه فأخفيه، يقول لها: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱلْيَمِّ﴾، ابتلاءٌ من الله تبارك وتعالى لأم موسى صلوات الله وسلامه عليه ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ .
ثم قال تبارك وتعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ هذا الوحي وحي إلهام، وليس هو الوحي الذي يأتي الرسل، وهو مثل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ﴾ .
ألهم الله تبارك وتعالى أمّ موسى أن تفعل هذا الأمر، لا أن الملك نزَل إليها وكلّمها.
وفي هذه الآية ــ كما يقول أهل العلم ــ أمران، ونهيان، وبشارتان في سطر واحد:
فالأمران في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ﴾ .
والنهيان في قوله: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ .
والبشاراتان في قوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾، وهذه هي بلاغة الكتاب العزيز، بلاغة القرآن الكريم.
موسى عليه السلام يُربى في بيت عدوه:
يقول الله جلَّ وعلا: ﴿فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ قَدَّرَ الله ألا يلتقطه أحد غير آل فرعون ﴿وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ﴾ وكانت امرأة صالحة، وهي: آسية بنت مزاحم، وذلك بمجرد أن رأته امرأة فرعون ألقى الله ــ جلّ وعلا ــ محبةَ موسى في قلبها، فأحبته حباً شديداً بمجرد أن رأته، فقالت: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾، وقد ذُكر أن فرعون لم يكن له أولاد، فقالت: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ أي: هذا الغلام إذا كَبُرَ ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ لا يشعرون أن ذهاب ملك فرعون سيكون على يد هذا الولد.
يقول ابن عباس: والذي أحلف به لو قال فرعون: نعم قرةُ عينٍ لي ولكِ؛ لكان في هذا هدايته، قلت: ولكن كما قيل: القدر موكل بالمنطق، وذلك أنها لما قالت: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ قال: أما لكِ فنعم، وأما لي فلا، وكان كما قال، فكان قرة عين لآسية امرأةِ فرعون، فكان دخولها الجنة بسببه، وكان هلاكاً ودماراً على فرعون، حتى دخل النار؛ لأنه قال: «لا»، فلم يكن قرة عين له، بل كان عذاباً على فرعون وهو كما قيل:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
إذا كان الله تبارك وتعالى هو الذي يرعاه ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ من الذي يستطيع أن يؤذيه؟ لا أحد أبداً، إذا كان الله هو الذي يرعاه سبحانه وتعالى.
إذا أراد الله عز وجل أمراً كان ولابد:
فرعون يقتل كل ولد يولد؛ خوفاً من هذا الغلام الذي يكون على يديه ذهاب مُلْكِه، ثمّ يبين الله تبارك وتعالى له أنه إذا أراد شيئاً أمضاه، فكأنه قال لفرعون: أنت لا ترد أمري أبداً، أتدري ــ يا فرعون ــ أنّ هذا الغلام الذي سيكون ذهاب مُلْكِك على يديه أنت الذي ستربيه، وأنت الذي تطعمه وتسقيه، ينشأ في بيتك، ويأكل من طعامك، ويشرب من شرابك، ويكون ذهاب مُلْكِك على يديه، مَنْ أنت حتى تمنع أمر الله سبحانه وتعالى؟ وكان الأمر كما أراد الله سبحانه وتعالى.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ بشارة، اطمئني سيرجع إليك موسى، فلا تخافي، ولا تحزني، وحقَّقَ الله لها البشارة الأولى: قال ــ جلّ وعلا ــ بعد أن أخذَ آلُ فرعون موسى عليه السلام: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ يقول أهل العلم: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام، لا تفكر في شيء إلّا موسى أين ذهب؟ أخذه اليم إلى أين؟ حيّ؟ ميت؟ هل أخذه أحد؟ هل غرق في البحر؟ ما تدري ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ أي: فلما ربط الله على قلبها لم تُبْدِ بِهِ، وذلك أنها لو أبدتْ به لقالت من وجد غلاماً في اليم؟ كادتْ أن تتكلم، كادتْ أن تصيح: ولدي أين ذهب؟ من أخذه ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ ربط الله على قلبها، سَكَّنَها، وهدأها سبحانه وتعالى لتكون من المؤمنين، عند ذلك ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ وتتبعي واسألي بين الناس، أنا ما أستطيع أخشى أنني لو خرجت أصيح بين الناس ولا أتحمل، فذهبت أخته تَقُصُّهُ تبحث عنه، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ يعني: عن بُعْدٍ رأته، رأت موسى عليه السلام ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: لم تشعرهم أنها تنظر إليه أو تبحث عنه كأنها لا تعرفه، المهم عرفتْ من حديث الناس أن فرعون وزوجته وجدا غلاماً، في اليم فعرفتْ أنه موسى ﷺ.
موسى عليه السلام يرجع إلى أمه:
قال تبارك وتعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ﴾، قدّرَ الله سبحانه وتعالى لموسى صلوات الله وسلامه عليه أموراً يريدها أن تَقَعَ، وأن تَقَعَ كما يريد الله عز وجل، وهي:
أولاً: يُولد في السنة التي يُقْتَل فيها الغلمان.
ثانياً: أن يكون في التابوت، في اليم.
ثالثاً: قَدَّرَ لفرعون وزوجه أن يأخذا موسى.
رابعاً: حرَّم عليه المراضع ليرده إلى أمه.
تقدير عظيم من الله سبحانه وتعالى، قال: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ لا يقبل ثدياً، كلما جاؤوا بمرضعة رفضها، فلا يقبل مرضعة، فقالت أخته: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾، قالوا لها: وما يدريك أنهم له ناصحون؟ شكّوا في أمرها، قالت: لشفقتهم عليه، ورغبتهم في قضاء حاجة الملك، ورجاء المنفعة، ولذلك أتوقع هذا.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ فأخذته إلى أمه، ولِمَ؟ ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ﴾ وذلك لما أوحى الله إليها: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾، ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ﴾ لكن ما المشكلة؟ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فإن الله إذا أراد أمراً هيأ الأسباب، وأزال الموانع، فيقع ما يريده الله جلّ وعلا.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ قلت: إنها بشارة من الله ــ جلّ وعلا ــ لأم موسى، وكان كما بشرها الله سبحانه وتعالى أتاها ابنها إلى بيتها، ولكن بدون خوف، ولو ظل عندها في بيتها لكانت ترضعه، وتجعله في التابوت سنين عدداً، لكن هنا يأتيها معززاً مكرماً من بيت فرعون، وذلك أنهم أتوا بها إلى بيت فرعون، فأرضعته، فقبل ثديها، فقالت لها امرأة فرعون: تبقين عندي، هذا سكنكِ، حتى ترضعي الغلام، فماذا قالت لها أم موسى؟ قالت: لا، أرجع إلى بيتي.
قالت: أعطيك من المال ما تشائين.
قالت: لا، أبقوا ولدكم، وأنا أرجع إلى بيتي. الآن أصبح عندها ثقة تامة بالله تبارك وتعالى، تعرف أنه سيرد إليها بعد ذلك.
فقالت: إذاً تأخذينه معكِ، وتأخذين عليه أجرة، فهي ترضع ولدها بأمان، وتأخذ عليه أجرة، بل ويقال: «هذه أم موسى»، وكانت تخاف أن يقال: «أم موسى»، فأنتِ شرعاً أمه حقيقة، وأمه من الرضاعة أمامهم.
وهو كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ كرهت أن تضعه في التابوت، وكرهت ولادة موسى، والآن هو خير لكِ، سيأتيك الخير من حيث لا تشعرين، بل أي شرٍّ أعظم على أم موسى من أن يمسك آلُ فرعونَ موسى؟ وهي ما ألقته في اليم إلا خوفاً من جنود فرعون، فَقَدَّرَ الله عز وجل أن يُربى في بيت فرعون، أنتِ تخافين عليه من جنود فرعون، وأنا أربيه لك في بيت فرعون، فأخذه ورباه في بيته.
موسى عليه السلام يرجع إلى قصر فرعون:
بعد ذلك تمر مرحلة طويلة من حياة موسى، لا ندري ماذا حدث فيها من يوم أرضعته أم موسى حتى بلغ سِنّ الفطام، وطلبته امرأة فرعون، ورجع إليها مرة ثانية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت امرأة فرعون لأم موسى: ائتيني بولدي، أريد أن يزورني، فواعدتها يوماً أن يأتيها، وقالت امرأة فرعون لخزانها وخدمها: لا يبقين أحدٌ منكم إلّا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة، فاليوم سيرجع البيت بعد سنتين من الفراق، وعلى كل واحد أن يأتيه بهدية لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يُحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنِحَل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى حين دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته، وأكرمته، وفرحتْ به، وأهدتْ لأمه كذلك لحسن أثرها عليه؛ لأنها أرضعته، ثمّ قالت: لآتين فرعون فليكرمنه ولينحلنه، فلما دخلتْ به على فرعون جعله فرعون في حجره، فأخذ موسى لحية فرعون فجرها إلى الأرض، فقال الغواة الذين يجلسون مع فرعون لفرعون: ألا ترى ما وعد الله نبيه إبراهيم؟ إنه زعم أنه يعلوك ويصرعك، فلعله هذا الغلام، وعندها أرسل إلى الذباحين ليذبحوه، يقول ابن عباس: وذلك من الفُتون ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدالك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟
قال: إنه يزعم أنه سيصرعني. قالت: اجعل بينك وبينه أمراً يعرف فيه الحق، ائتِ بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهنَّ إليه، فإذا أخذ باللؤلؤ واجتنب الجمرتين؛ عرفت أنه يعقل ــ وكان عمر موسى سنتين ــ، وإن تناول الجمرتين ولم يرِد اللؤلؤتين؛ علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرِّبْ ذلك إليه، فتناول موسى الجمرتين. قال: فنزعهما منه مخافة أن يحرق يديه. فقالت المرأة: ألا ترى؟ لا يعقل الغلام. قال: فصرفه الله عنه بعد أن كان همّ به.
من السنتين إلى أن بلغ موسى صلوات الله وسلامه عليه أشُدَّهُ، والله أعلم كيف كانت حياته، ولكن يكفي أنه تربى في بيت فرعون كما قال له فرعون بعد ذلك: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ .
قتل القبطي:
وتمُرُّ هذه المرحلة من حياة موسى صلوات الله وسلامه عليه سريعة.
قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ﴾، وذلك أن بني إسرائيل كانوا قد عزّوا في زمن موسى بعد أنْ كانوا مهانين يُؤذون، ويُضْرَبُون، ويُقْتَلون؛ لأنهم يقولون نحن أخوال موسى بن فرعون، وما علموا أن موسى من بني إسرائيل أصلاً، لكنّهم يفتخرون أن امرأة من بني إسرائيل أرضعتْ ابنَ فرعون، فيقولون: نحن أخوال موسى من الرضاعة، وكان موسى يدافع عنهم، وذلك أنه يدافع عن الحق صلوات الله وسلامه عليه، وقد كانوا مظلومين، وكانت له مكانة ابن فرعون في ذلك الوقت.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ﴾، دخل وقت الراحة، إما في الظهيرة، وإما بعد العشاء، فوجد رجلين يقتتلان: أحدهما من شيعته ــ أي: من بني إسرائيل ــ ﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي: من القبط ﴿فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ لأن في الأصل أن القبط كانوا هم الظلمة الذين يؤذون بني إسرائيل: يقتلونهم، ويأخذون أموالهم، ويسخرونهم، ويضربونهم.
قال الله جلّ وعلا: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ يعني: ضربه بمَجْمَع يده. وقيل: لَكَمَهُ، فقضى عليه، وكان موسى قوياً صلوات الله وسلامه عليه، فما كان يقصد أن يقتله، ولكن قدَّر الله تبارك وتعالى أن مات ذلك الرجل من تلك الضربة، قال موسى عليه السلام: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ ما قصدتُّ قتله، قصدت ضربه
وهنا قال موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي﴾ لأنه قتله بدون قصد ﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾، وكان موسى هنا قبل البعثة، فأي دين كان عليه موسى؟ دين إبراهيم، دين يعقوب، دين يوسف، دين بني إسرائيل، ثمّ قال موسى عليه الصلاة والسلام ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ لن أستخدم هذه القوة لكي أكون عوناً للمجرمين.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ يخاف أن ينكشف أمره وأنه قتل ذلك القبطي، وذلك صار حديثَ المدينة، من الذي قتله؟ وما اطلع على هذا إلّا ثلاثة فقط، الله جلّ وعلا، وموسى عليه السلام، والإسرائيلي الذي كان معه، فلا أحدٌ يدري من الذي قتل هذا القبطي. ﴿فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ﴾ يقول لموسى: انصرني على هذا القبطي يا موسى، فاستغاث به اليوم أيضاً، ولأنه كانت له مشاجرة مع قبطي آخر، قال له موسى: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾، كل يوم مشاجرة؟ أمس قُتِلَ الرجل بسببك، واليوم أيضاً مشاجرة؟ ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ أراد أيضاً أن يضرب القبطي؛ لأن القبط ــ كما قلنا ــ كانوا يؤذون بني إسرائيل أذية ما بعدها أذية كما قال الله عز وجل: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ .
قال القبطي: ﴿يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِٱلْأَمْسِ﴾ نحن قلنا: لم يعلم إلا ثلاثة، ولا يدري القبطي أن موسى قتل نفساً بالأمس.
قال أهل العلم: إنما الذي قال هذا هو الإسرائيلي، وذلك أن موسى لما غضب عليه وقال له: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ وجاءه مغضباً ظنَّ الإسرائيلي أن موسى سيضربه هو؛ لأنه هدده بقوله: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾، فخاف أن يقتله موسى، أو أن يضربه صلوات الله وسلامه عليه، فقال: ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِٱلْأَمْسِ﴾، فسمع القبطي، وهنا قال: إذاً موسى هو الذي قَتَل القبطي، فهرب القبطي، وصار يصيح: موسى القاتل، موسى القاتل، وذهب إلى فرعون يخبره أن موسى هو القاتل، الإسرائيلي الذي دافع عنه موسى هو الذي فضحه، وقال: ﴿إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي ٱلْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ﴾ .
عندها خاف موسى أكثر، مِنْ قبل خاف أن يُعْرف، والآن عُرِف أن موسى هو القاتل، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ أي: يمشي مشياً سريعاً أو يركب، المهم جاء سريعاً، وهذا الرجل ظاهره أنه من آل فرعون، فكما أنّ آسيةَ امرأةٌ صالحة، كذلك لا يخلو هذا المجتمع القبطي الكبير من أن يكون فيه أناس صالحون، فجاء الرجل إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، قال: ﴿إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ﴾ الذي عليه أكثر أهل التفسير: أن هذا الرجل من أشراف آل فرعون، ومن كبارهم، وكيف عُرِفَ هذا؟ قالوا:
أولاً: قوله تعالى: ﴿رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ﴾ فقيل: الأشراف يسكنون الأطراف، ولا يسكنون وسط البلد، وإنما يسكنون الأماكن البعيدة حتى يأخذوا مساحات كبيرة وذلك بعيداً عن الناس وإيذائهم.
ثانياً: قوله: ﴿إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ الملأ كبار القوم، إذاً ما يدريه إلّا أنه كان حاضراً معهم، ولكنه يكتم إيمانه ﴿إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ﴾ أي: من البلد ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ﴾ .
قال الله جلّ وعلا: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ﴾ عندها خرج موسى صلوات الله وسلامه عليه من مصر إلى مدين.
موسى في مدين:
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ ٱلسَّبِيلِ﴾ إذاً بَيَّن الله تبارك وتعالى أن موسى صلوات الله وسلامه عليه توجه إلى مدين، ومدين بلدة في الأردن، وقيل: تُنسب إلى مديان من أولاد إبراهيم ــ عليه الصلاة والسلام ــ غير إسحاق وإسماعيل، والعلم عند الله ــ جل وعلا ــ، قال: ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ ٱلسَّبِيلِ﴾ أخذ منها بعض أهل العلم أنه ما كان يقصد مدين، وإنما كان يقصد الهروب من مصر، وسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقه إلى بلد طيب، فوفّقه الله إلى مدين.
قال الله جلّ وعلا: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ﴾، وماء مدين بئر يسقي منه أهل مدين وجد عليه أمة ــ أي: جماعة ــ من الناس يسقون، ووجد امرأتين تذودان؛ أي: تمنعان غنمهما من الدخول مع غنم الناس، ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ لأن الأمر لفت نظره، أمر غريب هما جاءتا لتسقيا الغنم، وهنا تمنعان الغنم من أن تسقي أو تشرب الماء ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ ٱلرِّعَاءُ﴾ أي: نحن ممنوعتان من السقي، ونحن نَمْنع غنمنا؛ لأنها بهائم لا تفهم، حتى يسقي الرعاة جميعاً، ويذهبون ثمّ نأتي نحن ونسقي لضعفنا، وقبل أن يسألهما موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ ما مِنْ رجلٍ يأتي ليسقي لكما؟ ما مِنْ أخٍ؟ ما مِنْ زوجٍ؟ قالتا: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ يعني: قبل أن تسأل: السبب الذي من أجله نحن نسقي الغنم، ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ أي: دخل بين الناس، وسقى لهما مع الرعاء صلوات الله وسلامه عليه، حيث أخذته الغَيْرة والحمية لهاتين المرأتين، ورأى أنَّ هؤلاء القوم فيهم غلظة، وسوء أدبٍ مع هؤلاء النساء الضعيفات، فلذلك سقى لهما صلوات الله وسلامه عليه، وذلك أنّ أول من يسقي عادة: الأقوياء، فيأخذون الأمر بالقوة، ولذلك يقول عمرو بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
يعني: نحن إذا وردنا الماء، ما مِنْ أحدٍ يتجرأ أن يشرب قبلنا لقوتنا، فدائماً الأقوياء يأخذون أطيب الماء، وأما غيرهم فيأخذون حثالة الماء بعد أن يكون قد اختلط بالطين.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى ٱلظِّلِّ﴾ أي: بحث عن ظل يجلس فيه، ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ يشكو إلى الله فقره، ولكن بأدب، أنت يا رب أعطيتني خيراً عظيماً، ومع ذلك أحتاج إلى زيادة فضلٍ، ولذلك الإنسان المؤمن دائماً لا ينسى فضل الله عليه، وإذا أراد أن يسأل الله سبحانه وتعالى، فإنه يُستحب له كذلك أن يذكر فضل الله عليه.
قال الله جلّ وعلا: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَاءٍ﴾ مباشرة استجاب الله سبحانه وتعالى له، و(الفاء) هنا تفيد التعقيب؛ أي: مباشرة، ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ ولم يأته الأب؛ لأنه لو كان يستطيع أن يأتيه؛ لجاء وسقى الغنم ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾ لِمَ؟ ﴿لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، فذهب موسى عليه السلام إلى أبيهما ودخل عليه يقول الله جلّ وعلا: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ﴾ يعني: أخبره بقصته، وكيف أنه خرج من مصر، وكيف أنّ فرعون يذبح أبناءها، ويستحيي نساءها، وأنه خرج خائفاً، وكيف ألقته أمه في اليم، وتربى في بيت فرعون وقتل الرجل، وهكذا ذكر قصته لشعيب عليه السلام أو للرجل الذي جلس عنده الذي هو أبو المرأتين ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ﴾ قال له الرجل: ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ﴾ .
زواج موسى عليه السلام:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا﴾ لما رأتْ هذا المنظر، وهذا الكلام من موسى، ومن أبيها؛ قالت: ﴿يَاأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ﴾، هو غريب محتاج إلينا، ونحن محتاجون إليه ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْأَمِينُ﴾ يعني: لو بحثتَ عن شخص تستأجره لما وجدت مثله، فهو قوي دخل بين الرجال وسقى لنا، وأمين حيث إنه لما سقى لنا تركنا، ولم يكلمنا، ولم يطلب أجراً.
وقيل: إنه لما ذهب مع المرأة إلى أبيها قال لها: كوني خلفي حتى لا أراكِ، وذلك أن الريح كانت تحرك ثيابها، فوجدت فيه الأمانة، فقالت: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْأَمِينُ﴾ واقتنع الأب بكلام ابنته، فقال له: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ تكون أجيراً، وهذا يكون مهراً، فليس شرطاً أن يكون المهر مالاً، ولذلك النبي ﷺ زَوَّجَ امرأةً لرجل بما معه من القرآن، على أن يعلمها إياه([3])، قال: ﴿عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ وجزاك الله خيراً، قال: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ فليس المقصود أن أشقَّ عليك، ولكن ــ أيضاً ــ لا يمكن أن يكون زواج بدون مهر، فقال: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾، قال له موسى: ﴿ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ وتم الاتفاق بين موسى عليه السلام والرجل.
وقول البنت: ﴿يَاأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ﴾ قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: صاحب يوسف، لما قال لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ وصاحبة موسى لما قالت: ﴿يَاأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْأَمِينُ﴾، وأبو بكر لما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قوله: ﴿أَيَّمَا ٱلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ﴾ يقول سعيد بن جبير: سألني يهودي من أهل الحيرة أيّ الأجلين قضى موسى؟ جلس موسى عند الرجل ثمان سنوات أو عشر سنوات؟ فقال سعيد بن جبير: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، ثمّ آتيك بالجواب، قال: فقدمت فسألتُ ابن عباس، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل([4]).
المعروف لا يضيع:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: «جلس إلى الظل، وهو صفوة الله من خلقه، وقد ذُكِرَ أن بطنه لصق بظهره من الجوع، وكان لا يجد إلّا ورق الشجر ليأكله، وبعض البقول»([5]).
ولما صنع موسى عليه السلام هذا الجميل في المرأتين؛ كان الجزاء من الله عز وجل سريعاً، فبمجرد أن جلسّ إلى الظل جاءته إحداهما: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، وهو كما قال الله عز وجل: ﴿هَلْ جَزَاءُ ٱلْإِحْسَانِ إِلَّا ٱلْإِحْسَانُ﴾ .
من هذا الرجل؟
تُرى من ذلك الرجل؟ أعني الشيخ الكبير والد المرأتين، هناك أقوال كثيرة لأهل العلم، أشهرها قولان:
القول الأول: إنه شعيب النبي.
القول الثاني: إنه رجل صالح من ذرية شعيب عليه السلام.
أما من قال: إنه شعيب النبي؛ فلأن شعيباً عُمِّر كثيراً، والمثل السائر: «عسى عُمْرُك عُمُر شعيب النبي»، ويرون أن عُمُرَ شعيب طويل جداً مع أنه لا دليل على هذا، وأكثر من جاء في طول عمره نوح عليه السلام جلس في قومه ألفَ سنة إلّا خمسين عاماً، وإنما أخذ الناس هذا القول ــ يعني بطول عمر شعيب عليه السلام ــ بسبب أنهم ظنوا أن هذا الرجل هو شعيب؛ لأن شعيباً عليه السلام قريب من زمن لوط عليه الصلاة والسلام، ولوط ابن أخي إبراهيم، وإبراهيم ذريته إسحاق، ثمّ يعقوب، ثمّ أبناء يعقوب، حتى جاء موسى عليه السلام، فبينه وبين يعقوب ثمانية أو تسعة آباء، يعني: بين موسى وشعيب عليهما السلام.
والذين قالوا هو شعيب النبي عليه السلام استدلوا بأمور:
الأول: قوله لموسى عليه السلام: ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ﴾ .
الثاني: أنه وصف نفسه بالصلاح: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾ .
الثالث: اسم المدينة التي ذهب إليها موسى عليه السلام مدين، وهي مدينة شعيب النبي عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ .
الرابع: لجوء موسى عليه السلام إليه.
وقال الفريق الآخر: هو رجل صالح من ذرية شعيب عليه السلام، وكذلك استدلوا بأمور:
الأول: إهلاك الله عز وجل الكفار من قوم شعيب عليه السلام، وما بقي إلّا شعيب عليه السلام ومن آمن معه، قال تعالى: ﴿نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾، فيُسْتبعد جداً أن قوم شعيب عليه السلام يرون هذه الآية على صدق نبيهم، ثمّ لا يكرمون بناتِه، فيسقون أنعامهم، ويتركون بناتِ نبيهم لا يسقين.
الثاني: البعد الزمني بين شعيب وموسى عليهما السلام، فقد قال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾، وبين موسى ولوط عليهما السلام مئات السنين، فيُسْتبعد أن يكون شعيب عليه السلام قد عاش كل هذه المدة.
الثالث: لو كان هذا الرجل الصالح هو شعيباً النبي لنُصّ على اسمه، ولقالت المرأة لموسى عليه السلام: إن أبي هو شعيب النبي، أو لما جاءه موسى عليه السلام كان يخبره بذلك، وكذلك لما جاءت المرأة إلى نبي الله موسى عليه السلام قالت: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ ولم تقل: إن رسول الله يدعوك، حتى يعرف موسى عليه السلام مع مَنْ يتكلم.
واختار ابن جرير الطبري رحمه الله قولاً ثالثاً، فقال: «وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر بذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه: ﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ ... ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ﴾ »([6]).
فلا نقول هو شعيب ولا نقول ليس شعيباً، بل نقول: علمه عند ربي، والله أعلم.
جواز خطبة الرجل لابنته:
قول الرجل لموسى عليه السلام: ﴿أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ فيه أن للرجل أن يخطب لابنته، ولهذا قالوا في المثل: (اخطب لابنتك ولا تخطب لابنك)، وذلك أن الابن قد يستطيع أن يدبّر حاله، والآن أصبح عند الناس أن من العيب أن يخطب الرجل لابنته، وإنما ينتظر الخطاب يأتون لابنته، ولا بأس أبداً أن تذهب إلى رجل صالح وتدعوه إلى الزواج من ابنتك، ولذلك عمر رضي الله عنه لما تأيمت حفصة رضي الله عنهما بعد موت زوجها؛ ذهب إلى عثمان رضي الله عنه، فقال له: إن حفصة تأيمت فهل لك في الزواج منها؟ فقال: أفكر الليلة. جاءه عثمان فقال: أرى ألا أتزوجها، يقول عمر: فجئت إلى أبي بكر، فقلت له: إن حفصة تأيمت، فهل لك أن تتزوجها؟ يقول عمر: فسكتَ أبو بكر، فلم يردَّ عليّ، ثمّ خطبها رسول الله ﷺ، فجاء أبو بكر إلى عمر، فقال له: لعله كان في نفسك شيء، فقال له: إي والله، فقال: والله ما منعني إلّا أني سمعت رسول الله ﷺ يذكرها، فما كنت لأُفشي سر رسول الله ﷺ([7]).
وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَٱمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ فوهبت امرأة نفسها للنبي ﷺ ليس أبوها، بل هي التي وهبتْ نفسها للنبي ﷺ، ولكنه لم يتزوجها، وإنما زوجها أحد أصحابه([8])، ولم ينكر عليها صلوات الله وسلامه عليه.
بعد ذلك مرّتْ السنون، وموسى صلوات الله وسلامه عليه في مدْين بقي فيها عشر سنوات، وقيل أكثر، حتى ذهب كثير من أهل العلم إلى أن موسى صلوات الله وسلامه عليه بقي في مدين عشرين سنة، لكن القرآن الكريم لم يذكر لنا ماذا وقع من موسى خلال هذه السنوات أبداً، كما هو الحال بالنسبة للسنوات التي قضاها في بيت فرعون إلى أن بلغ أشده.
والسبب في عدم ذكر عدد السنوات أن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ بحيث يذكر لك كل يوم ماذا صنع موسى، وإنما هو كتاب هداية يعطيك ما ينفعك ويذكر لك ما يقيك النار ويُدخلك الجنة.
موسى عليه السلام يتوجه إلى مصر بعد قضاء الأجل:
قضى موسى الأجل، وأتمه على أكمل وجه، كما قال ابن عباس: إن رسول الله إذا قال فعل. وبعد ذلك توجه بأهله إلى مصر حيث أسرته هناك، وقومه، وبلده الذي نشأ فيه، وهو لا يعلم في ذهابه ذلك ما سيحدث له من الإكرام من رب العزة تبارك وتعالى.
خرج من قومه خائفاً يترقب، ومرّتْ عشرون سنة، أو قريباً من ذلك، وما علم صلوات الله وسلامه عليه أن الله ــ جلّ وعلا ــ سيناديه وسيكلمه ويناجيه، وذلك بالوادي المقدس، فسار بأهله ومعه قطيع من الغنم متجهاً إلى مصر.
أيضاً لم تذكر لنا الآيات هل كان معه أولاد أو لم يكن له أولاد خلال هذه الفترة التي تزوج فيها، والمشهور في كتب أهل الكتاب أنه كان له ولدان من هذه الزوجة، المهم خرج بأهله إلى مصر، وهم في الطريق أبصر ناراً من بعيد، فقال لأهله: ﴿ٱمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾، قال أهل العلم: وهذا يدلّ على أربعة أمور:
الأول: أن موسى كان تائهاً في الطريق ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ يعني الطريق، وفي آية أخرى: ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى﴾ يعني: مَنْ يهديني الطريق.
الثاني: ظلمة الليل الشديدة، ولذلك أراد جذوة من النار أو قبساً من نور يهتدي به صلوات الله وسلامه عليه.
الثالث: البرد كان شديداً لقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ .
الرابع: أن أهل موسى لم يبصروا النار؛ لأن جميع الآثار ذكرت أن موسى هو الذي رأى النار، فقال لأهله: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾، فذهب وحده، وليس فيه أن أهله كذلك رأوا هذه النار، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن هذه كرامة من الله لا يراها إلا الأنبياء.
بداية الوحي لموسى عليه السلام:
قصّ الله علينا قصته، فقال جلّ وعلا: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى ٱلْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ ٱلْوَادِي ٱلْأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلْآمِنِينَ ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ﴾ آياتٌ واضحةٌ تماماً تبين لنا ما حدث لموسى لما ذهب إلى تلك النار، وقال جلّ وعلا كذلك في سورة طه: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا ٱللَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا أَنَا فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هَيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلْأُوْلَى وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَى ٱذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَٱجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيْتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى﴾ هذه منّة أخرى مني لك، سأشد عضدك بأخيك، وفي هذه الآيات أمور، منها:
الأول: إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، وأنه كَلَّمَ موسى، ولذلك يقال لموسى: (كليم الله)، والله ــ جلّ وعلا ــ يتكلم متى شاء، كيف شاء بما شاء سبحانه وتعالى، وأما قول البعض أن الذي كلَّم موسى الشجرة، أو خلق الله كلاماً في الشجرة، أو أن مَلَكَاً هو الذي كلم موسى، فكُلّ هذا باطل مِنْ القول وزورٌ، فلا يُعقل أنْ يُكَلِّمَ أحدٌ غيرُ الله موسى، ويقول له: ﴿إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾، أو يقول له: ﴿إِنَّنِي أَنَا ٱللَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا أَنَا فَٱعْبُدْنِي﴾ أبداً لا يمكن إلا أن يكون القائل هو الله سبحانه وتعالى.
ولما سمِعَ موسى عليه السلام ذلك النداء أنِسَ به، واطمئنتْ نفسه، وذهبتْ وحشته عليه السلام، وقد قال موسى لأهله لما رأى تلك النار: ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾، وقال: لعلي أجدُ عندها هدى، فلما أتاها عليه السلام ورجع إلى أهله أتاهم بخبر، ولكن أي خبر؟ وأتاهم بهدى، ولكنْ أي هدى؟ وأتاهم بقبس، ولكن أي قبس؟ إنه قبسُ النبوة والرسالة التي مَنَّ الله تبارك وتعالى بها على موسى عليه السلام.
لما أتى موسى ــ صلوت الله وسلامه عليه ــ تلك النار؛ رأى منظراً عظيماً، وشيئاً مهولاً، رأى ناراً تضطرم في شجرة، والنار تزداد توقداً، والشجرة تزداد اخضراراً، وهذا أمر عجيب، فالنار لا تأكل الشجرة! وهذا الأمر بهر موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لما رآه، ولذلك يقول ابن عباس الحَبْر رضي الله عنهما: لم تكن ناراً، وإنما كانت نوراً يتوهج.
نور يتوهج كالنار، ولذلك لم تحترق تلك الشجرة.
الثاني: قول الله تبارك وتعالى لموسى عن العصا: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ فلما ألقاها؛ فإذا هي تسعى كأنها جانّ، والجانّ هي الحيةُ العظيمةُ السريعةُ الحركة، أمْرٌ مخيف لما رآه موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، ذُهِلَ من النار ووضْعِها، وذُهِلَ من الصوت، وهو لا يراه، وذُهِلَ من العصا لمّا ألقاها فإذا هي تسعى كأنها جانّ، ذُهِلَ ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ في هذه الليلة المظلمة، عندها قال الله جلّ وعلا: ﴿وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ﴾ ضع يدك على قلبك يذهب كل شيء مِنْ الرهبة والخوف، وهكذا المؤمن إذا أنسَ بالله ولجأ إليه فإنه يُذهب عنه كل شيء يرهبه، ولا شك أن هذا أمرٌ عظيمٌ وخارقٌ للعادة، وقاطع بأن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كن فيكون، وهو الفعال لما يريد.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ما المآرب الأخرى؟ يقال: إن الحجاج بن يوسف الثقفي لقي أعرابياً فقال له: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال مِنْ البادية: قال: وماذا في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي، وأعُدُّها لعَدَاتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها في سفري، وأعتمد بها في مشيي؛ لتتسع خطوتي، وأثب على النهر، وتؤمنني من العَسَرِ، وأُلقي عليها كسائي، فيقيني الحر، ويدفئني من القَرِّ([9])، وتُدْني إليّ ما بَعُد عني، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقْرَ الكلاب، وتنوب عني الرمح في الطعن، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي، وسأورِّثُها ابني، وأهشُّ بها على غنمي، وليَ فيها مآربُ أخرى.
ويقولون: العصى لمن عصى.
وجاء في التوراة الموجودة حالياً مثل هذه الأخبار وقريبة منها؛ لأن التوراة ــ كما قلنا ــ وإن كانت محرفة إلّا أن فيها ــ ولا شك ــ شيئاً من الحق، وافق ما في كتاب الله تبارك وتعالى، وفيها:
«وأما موسى؛ فكان يرعى الغنم لثيرون، وثيرون هو الرجل الصالح أبو البنتين كاهن مديان يرعى الغنم إلى وراء البرية، وجاء إلى جبل الله، وظهر له ملاك الربِّ بلهيب نار في وسط عُلّيقَة([10])، فنظر فإذا العُلَّيقَة تتوقد بالنار، والعُلَّيقَة لم تكن تحترق، فقال موسى: أميل الآن لأنظر لهذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العُلَّيقَة؟ فلما رأى الربُّ أنه مال لينظر؛ ناداه الله من وسط العُلَّيقَة، وقال: موسى، موسى، فقال: ها أنا ذا فقال: لا تقرب إلى هاهنا اخلع حذاءك من رجلك؛ لأن الموضع الذي أنت فيه واقف عليه أرض مقدسة، وقال له الرب: ما هذه في يدك؟ قال: عصى. قال: اطرحها على الأرض، فصارت حية، فهرب موسى منها، ثمّ قال الرب: مُدَّ يدك، وأمسك بذنبها، فمد يده، وأمسك بها، فصارت عصى في يده، ثمّ قال له الرب: أدْخِل يدك في عِبك ــ أي: في جيبك ــ، ثمّ أخرجها، وإذا يده برصاء مثل الثلج» اهــ.
وهذه الأخبار أكثرها يوافق ما في كتاب الله جلّ وعلا إلّا قوله: «برصاء» هي لم تكن برصاء، وإنما كانت بيضاء تتلألأ مثل القمر، وذلك أن موسى عليه السلام كان آدَمَ ــ يعني: أسمر اللون ــ، والله تبارك وتعالى قال: ﴿وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ ليس برصاً، ولا بهقاً، وإنما هو نور، ولذلك قال أهل العلم: كانت مثل القمر تتلألأ.
والسبب من ذكر هذه التفاصيل في كتاب الله عز وجل:
وصف الله ــ جلّ وعلا ــ مجيء موسى إلى الوادي المقدس طوى، وذكر ما ناجى به موسى عليه السلام في كثير من المواضع في كتاب الله؛ ليُثَبِّتَ بذلك قلبَ النبي محمدٍ ﷺ ليكون آية بينة، وهي أن محمداً رسول الله حقاً، وذلك أنه لم يكن مع موسى، ولا أحد من قومه، ولا كان يعرف عن موسى شيئاً، خاصة تلك الأخبار الدقيقة التي قلنا: إنها موجودة في التوراة، وكيف أنَّ أهل التوراة يسمعون كلام النبي عن موسى، وهم يقرؤون ذلك في التوراة، وهو نبي أُميٌّ في أمة أُمية، فكيف عرف ذلك؟ إنه الوحي من الله عز وجل، ولذلك يقول الله لمحمد ﷺ: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى ٱلْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، فالله يبيّن أن جميع هذه الأخبار التي جاء بها النبي محمد ﷺ إنما هي من عند الله جلّ وعلا.
بقيتْ أمور، وهي قول الله تبارك وتعالى لموسى: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ فمن كان في النار؟ ومن كان حولها؟ الصحيح في هذه المسألة ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي: الذين حضروا عند النار في ذلك الوقت، وهم موسى والملائكة الذين أرسلهم الله جلّ وعلا، وإن كانوا لم يُذكروا نصاً في كتاب الله سبحانه وتعالى، أما الله جلّ وعلا فكلَّم موسى وهو مستوٍ على عرشه فوق سماواته جلّ وعلا؛ لأن الله لا يكون داخل النار، ولا داخل النور سبحانه وتعالى؛ لأن الله ــ جلّ وعلا ــ غير متصل بخلقه سبحانه وتعالى، بل منفصل عنهم فوق سماواته سبحانه وتعالى، ولكن إنما يذكر الله ــ جلّ وعلا ــ موسى عندما حضر والملائكة الذين حضروا تلك القصة، أو ذلك الحال الذي كان لموسى مع ربه ــ جلّ وعلا ــ، فَبُورِك موسى وبُورِك الملائكة، وبُوركت النار، وبُورِكت البقعة التي فيها تلك النار، ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ ٱلْوَادِي ٱلْأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ﴾ بقعة مباركة، ورجل مبارك، وملائكة مباركون، وشجرة مباركة ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ .
أقسام البركة:
قال أهل العلم: البركة هي كثرة الخير، وتكون في أمور: في الأقوال، والأفعال، والأماكن، والأزمنة، وأمور أخرى:
فأما في الأقوال: فكتاب الله سبحانه وتعالى كتابٌ مباركٌ، والبركةُ فيه ظاهرة، فهو رحمةٌ، وهو شفاء، وهو شفاعة، وهو أجر، عندما تقرؤه تأتيك البركة من كل جهة.
وأما في الأفعال: كطلب العلم، فيبارك الله لك في وقتك، ويبارك الله لك في علمك، ويبارك الله لك في الأجر الذي تأخذه، ويبارك الله لك فتعبد الله على بينة من أمرك.
وأما في الأماكن: فالمساجد مباركة، خاصةً المساجد الثلاثة، ومكّة مباركة، والمدينة مباركة، وهذا الوادي مبارك، والشام مباركة، فيجعل الله تبارك وتعالى البركة في هذه الأماكن سبحانه وتعالى.
وأما في الأزمان: فرمضان مبارك، وليلة القدر مباركة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، وعشر ذي الحجة أيام مباركة.
وأما الأمور أخرى: فماء زمزم مبارك([11])، وزيت الزيتون مبارك([12])، ولعق الأصابع بعد الأكل فيه البركة([13])، والخيل جعل الله فيها البركة([14]).
وهناك أشخاص مباركون: فمحمد ﷺ مُبَاركٌ، وموسى عليه السلام مبارك، باركه الله: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، وعيسى عليه السلام مبارك ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾، وهذه بركة يجعلها الله في أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما ما لم ينصّ الله عليه، ولم ينص عليه الرسول ﷺ فكيف نعرف أنه مبارك؟ فلا يجوز أن يأتي الإنسان لشخص ويقول: هذا شخص مبارك، أو هذا زمان مبارك، أو هنا بركة، فهذا أمرٌ غيبي، ولكن قل: نسأل الله أن يجعلك مباركاً، ونسأل الله أن يجعل هذا المكان فيه بركة، أمّا أن تنصّ أن هذا فيه بركة فلا يجوز، ولهذا لما خرج من أسلم حديثاً من كفار مكة مع النبي ﷺ من مكة إلى حنين، قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، لماذا يريدون ذات أنواط؟ قالوا: نتبرك بها، ونضع عليها الأسلحة، فننتصر كما كان يفعل أهل الجاهلية، فأنكر عليهم النبي ﷺ([15])، لذلك لا يجوز أن يعتقد الإنسان في شيء أنه بركة إلّا ما جعل الله فيه تلك البركة.
موسى عليه السلام يبدأ في تبليغ رسالته:
أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام وبَيَّن له أنه مبعوث من عنده، وأنه رسول وأراه الآيات الدالة على صدقه، والعصى التي ألقاها، ثمّ ﴿فَإِذَا هَيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾، ثمّ أخذها فإذا هي عصى، ثمّ أدخل يده، فإذا هي بيضاء، ووضع يده على صدره، فذهب الرهب عنه، وسمع كلام الرب وأنِسَ به صلوات الله وسلامه عليه، واطمأنتْ نفسه، أدرك أهمية المسألة، وضخامة الأمر والمهمة التي أوكلها الله إليه، فذكر لله سبحانه وتعالى أموراً يحذرها، ثمّ طلب أشياء من الله عز وجل.
فالأمور التي يحذرها: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي﴾ وقال: ﴿فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ .
والأمور التي يرجوها: ﴿رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ [طٰه: 25-27]، وذلك أنهم قالوا: إن هارون كان أفصح من موسى؛ لأن موسى لم يعشْ مع بني إسرائيل ومع القبط كما عاش هارون، وذلك أنه عاش في أهل مدين قريباً من عشرين سنة، فهارون كان في بني إسرائيل ومع القبط، فكان أفْصَحَ من موسى صلوات الله وسلامه عليه، وقيل غير ذلك كما جاء عن مجاهد وغيره أن موسى صلوات الله وسلامه عليه كان قد اختبره فرعون لما كان صغيراً عندما أخذَ بلحية فرعون، فجرها إليه فغضب فرعون، أراد أن يفْتِكَ به ويقتله، فخافت آسية على موسى، وقالت: اختبره، ضع له جمرة وتمرة، فإن أخذ التمرة فدونك فاقتله، وإن أخذ الجمرة، فإنه لا يفقه، ولا يعي، ولا يدري ما يصنع، قال: نعم أفعل فوضعت لموسى تمرة وجمرة، فأوحى الله إليه أن يأخذ الجمرة، فأخذها ووضعها على لسانه، فكان في لسانه شيء من الثقل لأجل تلك الجمرة، ولذلك يقول عنه فرعون: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ يعني: أن كلامه ليس فصيحاً.
وقال: ﴿وَٱجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾، وأن يكون ﴿هَارُونَ أَخِي ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ يكون نبياً، ويكون لي ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ إذا كذبوني.
قال الله جلّ وعلا: ﴿قَدْ أُوتِيْتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى﴾، فاستجاب الله لموسى، ووهب له أخاه هارون نبياً معه ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، وقال: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾، ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ﴾ .
فاتجه موسى عليه السلام إلى فرعون يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، ومعه هارون عليه السلام بعد أن جعله الله عز وجل نبياً مِنّة منه عليهما.
وقد سمعت عائشة رضي الله عنها رجلاً يقول لأناس يسألهم وهم سائرون إلى الحج قال: من هو الأخ الذي له مِنّة عظيمة على أخيه، ولم يكن لأحد مِنّة مثلها؟ فسكت الناس، ولم يعرفوا الجواب، فنادت عائشة ــ وهي في هودجها ــ، فقالت: هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأُوحي إليه فكان نبياً، ولهذا قال الله له: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ .
عندها اتجه موسى إلى مصر مطمئنَّ القلب، فقد كان رجلاً عادياً ثمّ صار نبياً رسولاً.
ذهب موسى إلى أخيه هارون، وأخبره البشارة، وهي أن الله سبحانه وتعالى اختاره نبياً معه، وأنهما مأموران بدعوة فرعون، قال الله جلّ وعلا: ﴿ٱذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ٱذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ تجبر وطغى، والطغيان هو مجاوزة الحد، ولذلك يقال: طغى الماء أي تجاوز حده: ﴿إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَٱلسَّلَامُ عَلَى مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ .
معية الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ هذه هي المعية الخاصة، وذلك أن معية الله جلّ وعلا لعباده تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: معيةٌ عامة يشترك فيها الإنس والجن، بل والبهائم، ويشترك فيها البَّر والفاجر، ويشترك فيها المسلم والكافر، وهي المعية العلمية، وهي في قول الله تبارك وتعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾ وهذه معية لكل الخلق لا تميز لأحد فيها، ولا فضل لأحد فيها، وكما في قول الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَى عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .
القسم الثاني: معيةٌ خاصةٌ بأوصاف كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقُوْا وَٱلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ﴾، فكل تقي، وكل محسن، وكل صابر؛ فالله معه، فمن اتصف بهذه الصفات فالله معه، وهذه المعية فيها نصرة وتأييد ومحبة من الله سبحانه وتعالى.
القسم الثالث: المعية الخاصة بالأشخاص، كما في هذه الآية ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ أي: يا موسى ويا هارون أنا معكما أنتما دون غيركما، وكما في قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ أي: أنا وأنت فقط مع أن كفار قريش كانوا على باب الغار، لكن الله ليس معهم، وهذه معية خاصة بشخص معين، خَصّ الله بها موسى وهارون، وخَصّ الله بها محمداً وأبا بكر، وهي تستلزم النصرة، والمحبة، والتأييد، والتوفيق من الله تبارك وتعالى، وسيأتينا قول موسى عليه السلام حين تبعه فرعون يريد قتله ومَنْ معه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ فما نسيها موسى صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك بمجرد أن قال الله لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ علما علم اليقين أن الله ناصرهما سبحانه وتعالى، ولذلك اتجها إلى فرعون دون خوف، ولا وَجَلٍ، ولا ترددٍ، مزودان بسلطان من الله سبحانه وتعالى كما قال الله جلّ وعلا: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ فلا تنالهما يد طاغية أبداً، فرعون أو غير فرعون.
ثمّ جاءت البشارة من الله تبارك وتعالى: ﴿بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ﴾ ماذا تريدون إذاً ألا يكفيكم هذا؟ وتصوروا إذا قال الله شيئاً فمن ذا الذي يردُّ أمره؟ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ولذلك قال الله لموسى من قبل﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى * وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طٰه: 40-41]، أنت يا موسى منذ ولادتك وأنا أرعاك، وجعلت أمك تُلقيك في اليمّ، وربَّيتُك في بيت فرعون، وأراد قتلك، فحميتك، وقتلتَ نفساً فنجيتك، فلبثت سنين في أهل مدين ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى﴾، ألا ترى أني اصطنعتك لنفسي!! فلا تخف يا موسى.
فالله سبحانه وتعالى كان حافظاً لموسى عليه السلام منذ صغره، وربّاه على عينه سبحانه وتعالى، ثمّ اصطفاه الله عز وجل برسالاته وبكلامه.
المواجهة بين موسى عليه السلام وفرعون:
ذهب موسى رابط الجأش قوياً، واثقاً بنصر الله له، فدخل على فرعون، ومعه أخوه هارون، فكانت المناظرة بينه وبين فرعون، قال موسى لفرعون: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، قال فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ يدّعي أنه لا يعرف رب العالمين!!
قال موسى: ﴿رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾، فالتفتَ فرعون إلى من عنده قائلاً: ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾، فاستنكر فرعون ذلك فموسى يقول: ﴿رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، وفرعون يدّعي الربوبية، ألست ربكم؟ ألست إلٰهكم؟ كان يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَى﴾ ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرِي﴾ هذا كلام غريب أسمعه اليوم، يدعي أن هناك رباً غيري ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾، فالتفت إليهم موسى صلوات الله وسلامه عليه، وقال لهم: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ﴾، وكأنه يقول لفرعون إن كنت رباً؛ فأين آباؤك؟ أربٌّ وله أب؟ كيف يكون هذا؟ بل هذا ربك وربُّ آبائك الأولين وربكم أنتم أيها الجالسون عند فرعون ﴿وَرَبُّ آبَائِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ﴾ فماذا قال فرعون؟ قال: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ .
قال موسى ﴿رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، فلم يجد جواباً إلّا أن قال: ﴿لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلـٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ﴾ هذا هو الجواب: منطق استخدام القوة وإظهار العضلات منطق الغاب.
قال موسى:﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الشُّعَرَاء: 30-33]، وذلك أن موسى صلوات الله وسلامه عليه كان أسمر اللون، ليس بأسود، فأخرج يده، وإذا هي تتلألأ مثل القمر، لا برص فيها، بيضاء، وهنا قال فرعون:﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشُّعَرَاء: 34-35] فرعون يستشير من عنده!!﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ ؟ [الشُّعَرَاء: 35]
وفي موضع آخر يقول الله تبارك وتعالى عن فرعون أنه قال لموسى:﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي ٱلنُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طٰه: 49-55].
وكان مما قال فرعون لموسى:﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ﴾ [الشُّعَرَاء: 18-19].
وهنا ذكر فرعون ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ألم نربك فينا وليداً؟
الأمر الثاني: أنك لبثتَ فينا من عمرك سنين.
الأمر الثالث: أنك فعلت فعلتك، وأنت من الكافرين.
يريد بذلك أن له مِنّةً على موسى عليه السلام، ويُذكّره بقتله للقبطي دون سبب، وعندها قال موسى: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ ٱلضَّالِّينَ﴾، ما كنت رسولاً، وهذا كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ أي: ضالاً عن الرسالة، ليس ضالاً بمعنى أنه كان كافراً، فلم يكن نبيٌ من الأنبياء كافراً، وإنما كان ضالاً عن الرسالة، لا يعرف رسالة مَنْ سبقه، ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ ٱلضَّالِّينَ﴾ قبل أن أُبعث فعلت هذه ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ لأني كنت أعلم أنكم ظلمة؛ لأني ما قصدتُّ قتله، فكنتم ستظلمونني، ولذلك خِفْتُ منكم، ففررت وتركت مصر وأهلها.
ثم قال: ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ أي: بعد أن تركت مصر وهب لي ربي حكماً ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾، ثم قال له: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ .
وهنا لأهل العلم قولان: ما معنى قول موسى صلوات الله وسلامه عليه ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ ؟ هل هو ينكر على فرعون أو يمتدحه بذلك الكلام؟ قولان:
القول الأول: لا فضل لك يا فرعون، فهذه النعمة التي تَمُنّها عليّ أنك ربيتني وليداً ولبثت في بيتك؛ السبب في هذا أنك كنت تقتل الأطفال، وما كان لنا من سبيل إلا أن ألقتني أمي في اليمّ، تَمُنّ عليّ أنك ربيتني؟ أنت السبب؛ لأنك كنت ستقتلني لولا إلقائي في اليمّ، فهذا يكون على سبيل الإنكار على فرعون.
القول الثاني: أن موسى بهذه الكلمات يتلطف مع فرعون، كأنه يقول له: ربيتني وليداً، ولبثت كثيراً مِنْ عمري عندكم، وفعلت فعلتي ولم تقتلوني، فأكمل معروفك وأرسل معي بني إسرائيل، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ .
قال موسى لفرعون:﴿إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الأعرَاف: 104-108].
والآن تتدخل حاشية فرعون ــ بطانة السوء ــ بعد أن قال فرعون: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعرَاف: 109-110].
قالت الحاشية: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشُّعَرَاء: 36-37]، هذه الحاشية بدل أن تقول لفرعون لعله صادق، لعله رسول، قالت: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ أمهلهما ﴿وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشُّعَرَاء: 36-37]، فالتفت إليهم موسى، وقال: ﴿أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ﴾، وهنا تكلم فرعون، وتكلمت الحاشية معه، قالوا: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَاءُ فِي ٱلْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ .
وبعد أن قامت الحجج على فرعون وظهر له أن موسى عليه السلام ليس بساحر، قال: ﴿لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلـٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ﴾، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين حتى يأتوه بكل ساحر عليم، وواعد موسى، وقال له: ﴿فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾، يعني: وسط، وسط المدينة لا جنوب، ولا شمال، ولا شرق، ولا غرب، وهذا هو ما أراده موسى عليه السلام حتى يتيسر له أن يدعو الناس جميعاً، فوقع فرعون في ذلك، وأمر بجمع الناس؛ لأنه ظن أن الذي جاء به موسى سحر وغره أصحابه وحاشيته، وقالوا: نأتيك بكل ساحر عليم، ففرعون وجدها فرصة حتى يبطل ما جاء به موسى فقال لموسى: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ وسط يحضره الجميع لا يعجز عنه أحد، ولا يتركه أحد.
قال موسى: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ﴾ مكان وسط، ووقت وسط كما تريد، وليكن أيضاً في يوم الزينة، يوم العيد حيث جميع الناس يجتمعون، جميع الناس فارغون ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى﴾ أي: يكون هذا الوقت في الضحى وفي النور، يجتمع فيه جميع الناس، قال فرعون: نعم، وقال موسى: نعم.
المواجهة الكبرى:
وجاء فرعون بالسحرة، وأقل ما قيل في عدد السحرة أنهم سبعون، وأكثر ما قيل في عددهم أنهم ثمانون ألفاً، ولا يوجد أي شيء قطعي في هذه المسألة، الله سبحانه وتعالى ذكر السحرة، وذكر أنهم أتوا بكل ساحر عليم، لكن لم يذكر لنا الله سبحانه وتعالى عددَ السحرة أبداً، وروايات بني إسرائيل متضاربة، هناك رواية تقول: سبعون، وهناك رواية تقول: ألف، وهناك رواية تقول: اثنا عشر ألفاً، وهناك رواية تقول: ثمانون ألفاً، وهناك رواية تقول: ثلاثة آلاف، وهناك رواية تقول: تسعة آلاف: ثلاثة آلاف من بني إسرائيل، وثلاثة آلاف مِنْ القبط، وثلاثة آلاف من المجوس، ولكن لا يوجد شيء قطعي، والقطعي أنهم مجموعة من السحرة، والمهم أنهم أحسن السحرة عندهم، وليس فيهم حسن.
وأول ما جاء السحرة اتجه إليهم موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، وقال: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا﴾ أنتم تعلمون أن هذا سحر، أنتم تعلمون أنكم ضالون مضلون، ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا﴾، فإن فعلتم ﴿فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾، سحتُ الشيء استئصاله، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ لما قال لهم هذا الكلام صار بينهم نزاع على ماذا؟ نزاع هل هذا ساحر أو رسول؟
قالوا: ﴿وَأَسَرُّوا ٱلنَّجْوَى﴾ ما هي النجوى التي أسروها؟ علمُها عند ربي سبحانه وتعالى، لكن يقول أهل العلم: إنهم ربما أسرّوا أنه إن كان هذا الرجل صادقاً ــ يعنون موسى ــ وأنه نبي فسنتبعه، أو ﴿وَأَسَرُّوا ٱلنَّجْوَى﴾ أنهم ترددوا، هل يُلقون أو لا يُلقون؟ حتى لا يفضحهم، وقيل: إن كان هذا نبياً؛ فإن الله سيظهره، وإلا ظهرنا عليه، والله أعلم ماذا أسروا، لكنهم تنازعوا كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا ٱلنَّجْوَى﴾ .
ثُمَّ التفتوا إلى موسى، وقالوا: ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ [طه: 65] يخيرونه كأنهم يثقون بأنفسهم، تريد أن تُلقي أم تريد أن نلقي نحن، لا يختلف عندنا الأمر، ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا﴾ [طه: 66] وهذا يبين أيضاً ثقته التامة بالله عز وجل؛ لأنه يعلم أن الله معه سبحانه وتعالى قال: ﴿أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ [الشعراء: 43]، ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ﴾ [يونس: 81] أنتم تأتون بالسحر، وأنا آتي بالمعجزات، وآتي بآيات بينات ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 81]، الله معي وأنتم مَنْ معكم؟﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ﴾ [يُونس: 81-82]، وفي آية أخرى:﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعرَاف: 115-116]، سحروا أعين الناس، واسترهبوهم، وخوفوهم، وكيف خوفوهم؟ إذا قلنا: إن عدد السحرة ثمانون ألفاً أو اثنا عشر ألفاً أو سبعمائة على أقل ما قيل في عد هؤلاء السحرة، تصوروا سبعمئة كلٌ يُلقي عصاه وحبله، فترى حيات تسعى، أصاب الناس رهبةٌ عظيمةٌ وخافوا خوفاً شديداً ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ﴾ أي: أوهموهم أن هذه الحبال، وهذه العصي انقلبت إلى حيات، ﴿وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ خوفوهم بكثرة الحيات، ﴿وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ بَيَّن الله أن السحر عظيم، ولكن الذي أبطله أعظم.
قال الله تبارك وتعالى عن فرعون لما أمره موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ أن يجمع الناس في يوم الزينة: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا ٱلنَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُوا صَفًّا﴾ اتّفِقوا على كلمة واحدة، لا تتفرقوا، اتركوا النزاع الآن، لا وقت للنزاع، ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُوا صَفًّا﴾ حتى يكون هذا أرهب لعدوكم، وأرهب للناس، كلكم تلقون في وقت واحد ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَى﴾ استعلوا بما عندكم، لماذا؟ لأن كل الناس يجتمعون الآن، ﴿قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ حتى موسى خُيِّل إليه أنها تسعى، ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ خيفة من ماذا؟
قالوا: أوجس في نفسه خيفة من أن يظهروا عليه.
وقالوا: أوجس في نفسه خيفة أن يتأثر الناس بهم.
وقالوا: أوجس في نفسه خيفة ألا ينتظر الناس ما يظهر الله على يديه.
وأظهر الأمرين الثاني، والثالث أما موسى عليه السلام فمطمئن بنصر الله له سبحانه وتعالى.
وجاء الجواب من الله: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْأَعْلَى﴾، أنت أعلى منهم، لا يغرك كثرتهم، لا تغرك حبالهم، ولا عصيهم، ولا تخييلهم، ولا من يساندهم، أنت واحد، ولكنك الأعلى، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾، أنت معك معجزة، معك آية بينة، معك برهان، وهؤلاء معهم السحر، ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ .
وهذا في زمن موسى عليه السلام وفي زمننا وإلى يوم القيامة؛ الساحر لا يفلح؛ لأنه عدو لله، ومن عادى الله هل يفلح؟! ﴿وَلَا يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ .
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ كُلَّ الذي يأفكون، حية واحدة ابتلعت جميع العصي، وموسى عليه السلام انقلبتْ عصاه إلى ثعبان حقيقي؛ لأن الله هو الوحيد ــ سبحانه ــ الذي يغير الأشياء من حقيقة إلى حقيقة أخرى، لكن غير الله لا يملك ذلك، وإنما يملكون أن يسحروا أعينَ الناس، كما قال الله لموسى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ إذاً حقيقتها أنها لا تسعى، وإنما يخيل إليهم ﴿فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَٱنْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾، فكانت المفاجأة: ﴿فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ أكْفَر الناس بعد فرعون سجدوا لله قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ لأنهم علموا أن الذي جاء به موسى عليه السلام ليس بسحرٍ، فهم أصلاً تنازعوا بينهم، وأسروا النجوى ــ والله أعلم بما أسروا ــ، لكن لما رأوا الحق ورأوا عصا موسى أنها فعلاً انقلبت إلى ثعبان حقيقي ابتلع عصيَّهم، وابتلع حبالَهم؛ عرفوا أن موسى محقٌ صلوات الله وسلامه عليه.
نقاش فرعون مع السحرة:
والآن تعالوا نقرأ النقاش الذي كان بين فرعون والسحرة لما أتى بهم فرعون، وقال لهم: إن موسى عنده عصا تنقلب إلى حية، ويدخل يده ويخرجها بيضاء، فماذا أنتم صانعون؟ قالوا: نظهر عليه ولكن ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ﴾ قال: نعم؛ لأنه صُدِمَ بما أتى به موسى صلوات الله وسلامه عليه ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ﴾ أكدها بأربع تأكيدات:
الأول: أكدها بنعم.
الثاني: أكدها بــ «إنّ».
الثالث: أكدها باللام.
الرابع: جعلهم من المقربين.
فلما ألقى موسى عليه السلام عصاه، وظهر الحق، وذلك أن الحق أبلج، والباطل لجلج، لا يبقى، فأدرَكوا حقيقة الأمر، وأدركوا أن الذي مع موسى نبوة وليست سحراً ﴿فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾، فصُدِمَ فرعون وقال: سحرتي وعمدتي يؤمنون؟! ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ﴾ قال: موسى هو الذي علَّمكم السحر، وهو يدري أن كلامه غير صحيح؛ لأنه قال قبل ذلك: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ﴾ إنه يدري أن موسى ولدته أمه، ثم أخذه وتربى في بيته سنين، ثم فَر والآن رجع، فمتى علمهم السحر؟! ومتى التقى بهم؟! ومتى رآهم؟! خاصةً إذا علِمنا أن السحرة هؤلاء جاؤوا من كل فجٍّ عميق، ﴿وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشُّعَرَاء: 36-37] حُشِروا من كل مكان، من كل صوب، ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ كل واحد جاء من مدينة، فمتى التقى بهم موسى؟! ومتى علَّمهم السحر حتى يقول هذا الكلام؟! لكنه كلام المصاب، أُصِيب في مقتل فلم يدْرِ ماذا يقول، ولم يدْرِ ما الذي يخرج من رأسه، ﴿فَلَأَقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ كيف تؤمنون به قبل أن آذن لكم؟ فكان الجواب من السحرة: ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ افعل ما تشاء، ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ وفي موضع آخر: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ثم قالوا: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾، ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ .
فليس من السهل على إنسان كان يدعي الألوهية أن يذعن ويرضى ويسكت عن مثل هذا الوضع، فيصير عبداً كغيره من العبيد، بعد أن كان يقول: إن الناس كلهم عبيد لي، الآن أنا أصير عبداً لغيري، أصير عبداً لله؟! ما استطاع أن يتخلى عن جميع الامتيازات التي كان يستأثر بها من دون الناس.
وهل قتل السحرة أو لا؟ روايتان:
الرواية الأولى: أنه قتلهم وصاروا شهداء.
والرواية الثانية: أنه تركهم.
المهم أنه ترك موسى عليه السلام وظل موسى بعد ذلك يدعو في مصر، وهنا فرعون أحبَّ أن يلقي آخر حباله، فنادى هامان، فقال: ﴿يَاهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ ٱلْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلـٰهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ كاذباً في ماذا؟ يظنه كاذباً أن له إلٰهاً غيره، أو كاذباً أن الله في السماء، على كل حال الذي كان ينكره فرعون أن يكون إلٰه غيره، ولذلك قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرِي﴾، وكان يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَى﴾، ويقول لموسى: ﴿لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلـٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ﴾ إذاً هو كان يدعي الألوهية، ويدعي الربوبية، وهل بني له الصرح؟ وهل صعد على ذلك الصرح؟ لا يُعلم، الذي يُعلم أنه قال لهامان: ابن لي الصرح.
مؤمن آل فرعون:
قام رجل مؤمن من آل فرعون، فقال كلمة حق عند سلطان جائر، ولا شك أن فرعون كان جائراً، قال المؤمن: ﴿يَاقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ * يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلْآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى ٱلنَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ﴾، مقارنةٌ عظيمةٌ وعجيبةٌ، أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار؛ أدعوكم إلى عبادة الله الذي يستحق أن يُعْبَد، وتدعونني لأن أشرك به، وأكفر به، أدعوكم إلى الجنة، وتدعونني إلى النار، ولذلك ختم بقوله: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَا فِي ٱلْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ متى؟ يوم القيامة ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ﴾، وهكذا يجب على المؤمن أن يدعو إلى الله تبارك وتعالى ويبين ما عنده.
أمّا فرعون فهل كان مصدقاً أنه إلٰه وأنه رب؟ أو كانت مجرّد دعوى، هو ذاته لا يصدقها؟ الصحيح أنها مجرد دعوى، وفي قرارة نفسه لا يؤمن أنه إلٰه، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عما يجول في خاطر فرعون، وما يدور في نفسه، فقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ أي: أنفسهم من الداخل كانوا يعتقدون عقيدة جازمة أن موسى صادق، وأنهم مبطلون، ولكنه العناد والكبر، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جلّ المعاصي وجل الأسباب التي تُدخل الناس النار ترجع إلى العناد والكبر، وفرعون هذا جمع الأمرين: جمع العناد والكبر معاً، ولذلك لما أدركه الغرق ــ كما سيأتينا ــ قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾، إذاً هو في حقيقة نفسه كان يدرك وجود إلٰهٍ آخر غير ما يدعي هو من الزور والبطلان.
اجعلوا بيوتكم قبلة:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَٱجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا ٱلصَّلَاةَ وَبَشِّرْ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾، فأنت يا موسى ومعك أخوك هارون ﴿تَبَوَّءَا﴾ أي: اختارا لقومكما بمصر بيوتاً، اسكنوا في مصر أنتما ومن آمن معكما من بني إسرائيل: ﴿وَٱجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾، استقبلوا القبلة في بيوتكم، ولم يقل لنا هنا ما هذه القبلة، هل هي بيت المقدس؟ أو أن القبلة مكة؟ ما ذكر لنا، ولكن ذكر: ﴿وَٱجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾، وأكثر أهل العلم على أن القبلة هي بيت المقدس.
وذهب بعض أهل العلم على أن القبلة هي الكعبة بيت إبراهيم الذي بناه، وهي قبلة جميع الأنبياء، وإنما استقبل النبي ﷺ بيت المقدس في أول الدعوة؛ لأن أهل الكتاب كانوا يستقبلون بيت المقدس وكان ﷺ يحب أن يوافقهم فيما ليس في كتاب الله تبارك وتعالى، حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ﴾ قالوا: ذلك أن المسجد الحرام هو قبلة جميع الأنبياء، وذلك مما حرفه بنو إسرائيل وجعلوا القبلة بيت المقدس دون الكعبة والله أعلم، لكنّ الشاهد من هذا أن موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ أمرَ بني إسرائيل ومن آمن معهم أن يتخذوا مكاناً في مصر، وأن يجعلوا بيوتهم قبلة، وأن يقيموا الصلاة، وهل هي صلاة مثل صلاتنا، مثلاً العصر أربع ركعات؟ الله أعلم، لكن يجب أن نعلم أنها كانت صلاة، وفيها ركوع وسجود، ولكن الله أعلم بكيفية هذا الركوع، أو عدد الركعات، أو عدد الركوع، أو عدد السجود.
فرعون يهم بقتل موسى عليه السلام:
تأثر فرعون كثيراً بالذي حدث، وبالهزيمة التي وقعت عليه، فلم يجد بُدّاً من تهديد موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، فقال لمن معه ــ وكأنه يستشيرهم ــ: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾، وكأن هناك من يمنعه، فقال: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي ٱلْأَرْضِ ٱلْفَسَادَ﴾ هذا الكلام يقول عنه أهل العربية: هذا كلام يُضحك الثكلى، والثكلى هي: المصابة بموت أبيها أو أمها أو زوجها أو ولدها، وهذه لا تضحك؛ لأنها مهمومة ومحزونة، وأحياناً بعض الكلمات تُضحك الثكلى؛ لغرابتها.
ففرعون يقول: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ لماذا تريد أن تقتله؟ قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي ٱلْأَرْضِ ٱلْفَسَادَ﴾، تصوروا موسى يُظهر في الأرض الفساد، وفرعون مصلح!! كما قال فرعون: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾، وهذا يذكرنا بقول الشاعر:
برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا
ومشى في الأرض يهدي ويسب الماكرينا
ويقول:
اطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا
مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب ديناً
وكذلك مخطئ من ظنّ يوماً أن لفرعون ديناً، وأنه يريد أن يصلح، وأنه يريد أن يهديهم سبيل الرشاد، وهل فرعون كان وحده أم كان معه من يدفعه دفعاً إلى هذه الأمور.
والجواب: كانت معه بطانة السوء كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ بطانة سوء لرجل سيء، ﴿وَقَالَ ٱلْمَلَأَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾، كيف تقبل أنت يا فرعون هذا؟ وذلك عندما سكت عن موسى، هؤلاء هم الذين دفعوه إلى قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ .
وبلغ هذا الكلام موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، أن فرعون يريد قتله، ويريد قتل من معه ممن آمن، فماذا قال لقومه؟ قال: ﴿ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوا إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وكذلك محمد ﷺ لما جاءه قومه يشتكون إليه أذى قريش قال: اصبروا وذكر لهم الحديث المشهور: «إن الرجل فيمن كان قبلكم كان يؤتى بالمنشار، فينشر نصفين من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، لا يرده ذلك عن دينه أبداً، ولكنكم قوم تستعجلون»([16])، إذاً بماذا أمرهم موسى؟ أمرهم بالصبر، فالإنسان يصبر على أمر الله تبارك وتعالى وقَدَرِه.
ثم قال لهم موسى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ .
موسى عليه السلام يدعو على فرعون ومَنْ ناصره:
وبعد أن هدّأ موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ من روعهم، وطمْأنَهُم؛ التفت إلى ربه يدعوه، فقال: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ﴾، دعا عليهم موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ فقد آذوه، وآذوا المؤمنين، آذوهم قبل ولادة موسى بذبح الأبناء والاستعباد، وآذوهم بعد بعثة موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ أيضاً بالتقتيل، ولذلك دعا موسى عليه السلام على فرعون، وأمَّن هارون بقوله: آمين، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، والآن فرعون قرر القتل لموسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، ولابد في كل مجتمع مهما كان سيئاً أن يخرج فيه بعض الصالحين، فهذا رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون لم يعجبه هذا الوضع، وهؤلاء الملأ كلهم يشيرون بقتله، وهذا الرجل من آل فرعون من النُخبة، ومن الصفوة عندهم ومن المقربين مخالف لهم ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ ولكنه ماذا؛ ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ﴾، يعني ما جريمته؟ فقط أنه قال: ربي الله، وهذه قالها أبو بكر لما خنق عقبة بن أبي معيط رسولَ الله ﷺ وكاد يقتله، فجاء أبو بكر، ودفعه عن رسول الله ﷺ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله([17])؟!
وكذلك هنا يقول هذا المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ﴾ ليس مدعياً، وإنما جاءكم ببينات، ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ﴾، قال أهل العلم: إن أبا بكر أفضل منه؛ لأنه ما كان يكتم إيمانه، ولكنه كان يظهره، أما مؤمن آل فرعون فهو يكتم إيمانه، ولذلك ابتدأ بقوله: ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا﴾ أنه نبي ومرسل من عند الله؛ ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ يصبكم خير من هذا الرجل ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وإن كان موسى مسرفاً على نفسه بدعوى الباطل، وكان كذاباً؛ فإن الله لا يهديه، وأنتم ترون خلاف ذلك، الله هدى موسى ونصره عليكم، وأظهر الآيات التي عنده على السحر الذي عندكم، فالتفت فرعون إلى الملأ، ثم قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾ .
وهل هذا الرجل هو الذي حذر موسى وأمره أن يخرج من مصر لأن الملأ يأتمرون به؟ قد يكون هو، وقد يكون آخر، والله أعلم.
المهم أن فرعون لما سمع كلام هذا الرجل وخشي أن يؤثر كلامه في الناس قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾ أي: في قتل موسى عليه السلام، فردَّ عليه المؤمن، فقال: ﴿يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ ٱلْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ يَوْمَ تَوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غَافر: 30-34] كلام موزون قاله هذا الرجل لقومه، يحذرهم في صنيعهم، ويحذرهم من ضلالهم، وهَدَأ فرعون، وما قتل موسى بعد هذا الحوار وسماعه هذا الكلام.
نزول صنوف من العذاب على آل فرعون:
وعاش موسى عليه السلام في مصر فترة، ولكن فرعون ظلَّ يُقَتِّل أبناءهم ويؤذيهم، فسلط الله تبارك وتعالى على آل فرعون آيات، سلَّط عليهم الجدب، والقحط، ونقص الثمرات لعلهم يرجعون عن غيهم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي: من الابتلاءات التي يبتليهم الله بها ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ ٱللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعرَاف: 131-132] فأغلقوا الباب أمام موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، لن نؤمن مهما تأتنا بآية لتسحرنا بها، فهم مصرون على ما هم عليه من الباطل، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ وهذه الابتلاءات، هي:
الطوفان: الماء خرج من النيل، فأغرق مزارعهم وبيوتهم.
الجراد: أرسل عليهم الجراد، فكان يأكل جميع محاصيلهم، ويدخل عليهم في بيوتهم حتى تأذوا منه أذية عظيمة.
القُمَّل: هو النمل الصغير الأصفر، وقيل: هو ما نسميه نحن بالقَمل نوع من الحشرات، وقيل: غير ذلك، فصار في كل مكان حتى تأذوا منه.
الضفادع: تنام معهم على فرشهم في بيوتهم، فيفتحون القِدر تخرج لهم الضفادع، ويفتحون الدرج والخِزانة يجدون الضفادع.
الدم: يفتحون الماء ينزل لهم الدم، وكان الدم في ثيابهم، وفي فرشهم، وفي مياههم، وفي النهر، كل شيء انقلب إلى دم، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ واحدة تلو الأخرى، وكلما جاءتهم آية ذهبوا إلى موسى: ادعُ الله أن يُذهب هذه ونتوب ونستغفر، فيدعو الله، فتذهب، فيعودون لما كانوا عليه، ثم تأتيهم الثانية، فيذهبون إلى موسى، وهكذا حتى جاءتهم تلك الآيات من الله جميعاً، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَٱسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ﴾ أي: العذاب ﴿قَالُوا يَامُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ﴾ أي: واحدة من التي ذكرنا ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ [الأعرَاف: 134-135].
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسرَاء: 101] اختلف أهل العلم في تحديدها:
فقال بعضهم: هي سنوات القحط التي أصابتهم، ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، هذه التسع آيات البينات.
وقال بعضهم: منها فلق البحر، وانبجاس الحجر إلى اثنتي عشرة عيناً.
وقال آخرون: العصا واليد، يعني: الذي يضيف العصا واليد ينقص اثنتين من فوق، والذي يضيف انبجاس الحجر وفلق البحر؛ ينقص اثنتين، إما نقص الثمرات ونقص الأنفس وهكذا، والظاهر أن انبجاس الماء من الحجر وفلق البحر جاءا بعد ذلك.
المهم أن موسى جاءهم بتسع آيات بينات صلوات الله وسلامه عليه.
موسى عليه السلام يقرر الخروج من مصر:
وظل موسى يدعو إلى الله تبارك وتعالى في مصر إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه موسى أن يخرج من مصر، أو أن فرعون قرَّر أن يقتل موسى، المهم أن موسى خرج بمن معه ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، ولحق بهم فرعون يريد قتلهم أو ردهم إلى بلاده، وكانوا قد وصلوا إلى البحر، وفرعون خلفهم، وتفاقم الأمرُ، واشتد الخطب، واقتربَ فرعون وجنوده حتى صار قاب قوسين أو أدنى منه، وزاغتِ الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بموسى الظنون، أنت قلت: سننجوا وستورثنا الأرض.. الآن سيهلكنا فرعون ومن معه، ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ انتهى الأمر، فقال موسى ذلك الرجل الواثق بربه وبوعده سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ أطلقها صلوات الله وسلامه عليه مدوية صكَّتِ الآذان هم يقولون: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ وموسى الثابت الواثق أمامه البحر وفرعون خلفه ويقول: ﴿كَلَّا﴾، لن يحدث شيء مِنْ هذا، لن تُدركوا، كيف؟! هل سنطير؟! سنختفي؟! تنشق الأرض وتبتلعنا؟! ماذا سنفعل؟ وليس هو الذي يفعل، بل الذي يفعل هو الله سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فموسى عليه السلام لم ينسَ قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾، ولذلك باطمئنان تام وهو لا يدري كيف سيحدث الأمر؟ لكن يعلم ويدرك علماً يقينياً ثابتاً جازماً أن فرعون لن يصل إليهم ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ﴾ .
انفلاق البحر لموسى عليه السلام:
بعد ذلك جاءت البشرى من الله تبارك وتعالى مباشرة ﴿أَنِ ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ﴾ فمن كان يتصور أن يحدث مثل ذلك؟ ما تصوره أحد، يأتي إلى البحر، هذا البحر العظيم، فيقول تعالى: ﴿ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ﴾ فضرب البحر بعصاه ﴿فَٱنْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ﴾ طود مِنْ هاهنا، وطود مِنْ هاهنا، أرض يابسة وسط البحر.
يقول الله تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ أي: موسى ومَنْ كان معه، فما كان معه إلا نفر قليل هم الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ .
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: مِنْ بعدهم ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ﴾ أي: وقت الشروق وجهة المشرق ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلْآخَرِينَ﴾ كان موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ كما يذكرون هرب إلى ساحل البحر الأحمر، وكان إهلاك فرعون في العاشر من محرم، ولذلك لما وصل النبي ﷺ إلى المدينة وجد اليهود يصومون العاشر مِنْ المحرم، فقال لهم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، قال: «نحن أحق بموسى منكم» فأمر بصيامه صلوات الله وسلامه عليه([18]).
انفلق البحر فلقتين، وبينهما أرض يابسة، وعبر موسى عليه السلام ومَنْ معه، فأتبعه فرعون، فأراد موسى أن يضرب البحر حتى لا يدخل فرعون فيه، فقال الله له: اتركه أنت تريد شيئاً، ونحن نريد شيئاً آخر يا موسى، ﴿وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْوًا﴾ اتركه هادئاً لا تضربه، ولا تأته ﴿وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾، فلما تجاوز موسى البحر؛ قال الله عز وجل: الآن اضربه، فلما ضربه كان فرعون وقومه في الوسط، فغرق فرعون ومَنْ معه كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ﴾ الآن رأى فرعون الماء يأتيه من كل صوب، وأدرك أنه سيغرق، فماذا قال؟ ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾ يقول: أنا الآن أسلمت، فجاءه الجواب من الله ــ جل وعلا ــ: ﴿ٱلْآنَ﴾ ؟! الآن تسلم؟ أين أنت قبل قليل؟ أين أنت لما جاءك موسى بالبينات؟ الآن؟ لما رأيت الموت؟ الآن لما أدركك الغرق؟ ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ * فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ فقط لماذا؟ ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ لا لأجلك أنت، ولكن لأجل غيرك؛ لأنهم كانوا يقولون عنه: إنه إلٰه، فإذا غرق يقولون: لم يغرق، واختفى فهو إلٰه، وسيأتي بعد ذلك، ولكن الله سبحانه قال: ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ نخرجك جثةً ببدنك حتى يعلم الناس جميعاً أنك لست بإلٰه، ولكنك مجرد عبد، شئتَ أم أبيتَ، ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ علامة حتى لا يدعي أحد بعدك الإلٰهية، أنت يا منْ كنتَ تدعي الإلٰهية نخرجك جثة نتنة منتفخة من الماء ليراك الناس وليعرفوا قدرك، وليعرفوا قدرهم عندما يتعاملون مع الله سبحانه وتعالى.
هل فرعون مؤمن؟
هناك من يقول فرعون آمن قبل أن يموت لما قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾ وقُبِلَت توبته، والصحيح أنه لم تقبل توبته؛ لأن الله قال له: ﴿آلآنَ﴾ ؟! ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا﴾، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ﴾، وقال: ﴿وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلْآنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ .
وقال النبي ﷺ: «تقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِر»([19])، فإذا غرغر رأى شيئاً لا يراه الآخرون، ولذلك لم تقبلْ توبة فرعون؛ لأنه رأى شيئاً لم يرَه غيره، رأى الموت بأمِّ عينه، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى مع الظالمين: «إن الله يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته»([20]) وفرعون حشر ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَى﴾، وقال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ ٱلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾، فأمهله الله سبحانه وتعالى حتى جاء اليوم الذي أخذه فيه كما قال الله جل وعلا: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ .
ونجى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام؛ لأنه كان مع الله، ومن كان مع الله كان الله معه.
وقد ذكر الله تبارك وتعالى إهلاك فرعون في أكثر من موضع، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾، وقال جل ذكره: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ﴾، وقال: ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ ٱلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ﴾، وقال: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾، وقال: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا ٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ﴾، وقال: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾، هذا حاله مع موسى عليه السلام.
أما حال فرعون في الآخرة؛ فقال الله تبارك وتعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً ويَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ﴾، وقال:﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ﴾، وقال: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ ٱلْعَذَابِ * ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ﴾ [غَافر: 45-46]، هذا حال فرعون مع موسى صلوات الله وسلامه عليه.
اجعل لنا آلهة:
وتجاوز موسى عليه السلام ومن معه البحر بعد أن خرجوا من مصر ووقعت أحداث كثيرة قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ مرّوا على قوم من عبدة الأصنام بعد أن جاوزوا البحر، ﴿قَالُوا يَامُوسَى ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ هذا أول السيل، وأول السيل قطرة، ولكنها قطرة قبيحة، ﴿ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ أو ليس لكم إله؟! أليس إلٰهكم الله ــ جل وعلا ــ الذي نجاكم الآن من فرعون، ﴿ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: عبدة الأصنام الذين مررتم عليهم ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلـٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ﴾ وهذه هي أول قضية.
قال أبو واقد الليثي خرجنا مع رسول الله ﷺ قبل حنين، والذين خرجوا مع النبي ﷺ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المهاجرون والأنصار: وهم الذين خرجوا مع النبي ﷺ من المدينة إلى مكة، ففتحها الله لهم.
القسم الثاني: وهم أهل مكة الذين أسلموا بعد الفتح.
القسم الثالث: وهم قوم من قبائل عربية أخرى جاؤوا ووافقوا النبي ﷺ في مكة بعد أن خرج من مكة إلى حنين ومعه عشرة آلاف، يقول أبو واقد الليثي: وكنا حديثي عهد بجاهلية، أي: الذين معهم ليس من المهاجرين والأنصار ولكن من آخرين من أهل مكة، الذين أسلموا الآن، أو غيرهم من الذين جاؤوا من خارج مكة وكانوا حديثي عهد بجاهلية ما عرفوا الإسلام حق المعرفة، يقول: فمررنا بسدرة، قلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، فالكفار لعدم تعلقهم بالله ولتعلقهم بالترهات والتوهمات كانوا يعتقدون في شجرة سدرة ذات أنواط ــ أي لها فروع ــ يأتون إليها فيعلقون عليها الأسلحة قبل القتال اعتقاداً منهم أنهم إذا علقوا الأسلحة على هذه الشجرة فترة من الزمن ثم أخذوها؛ فإنهم ينتصرون ولابد، وسبب نصرهم ماذا؟ أنهم علقوا الأسلحة على هذه الشجرة، فقالوا للنبي ﷺ: لماذا لا نفعل ذلك فننتصر؟ فلنعلق أسلحتنا على هذه الشجرة، فقال لهم النبي ﷺ: «الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى ﴿ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ ثم قال لهم: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ([21]).
إذاً أول قضية قالها بنو إسرائيل لموسى: ﴿ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا﴾ متى؟ بعد نجاتهم من فرعون مباشرة قبل استقرارهم، وعنَّفَهم موسى عليه السلام، فسكتوا، ولكن ما في قلوبهم إلى الآن يرتج عليهم كما يرتج المرجل([22]).
ميعاد موسى عليه السلام مع ربه:
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾، ذهب موسى ليبتعد عن بني إسرائيل ليناجي ربه جل علا، وكان قد صام ثلاثين يوماً ثم بعد ذلك أفطر حتى تذهب رائحة الفم مما يخرج من المعدة بسبب طول الصيام، فلما جاء لميقات ربه تبارك وتعالى، قال الله له: لماذا أفطرت يا موسى؟ قال: حتى تتغير رائحة فمي، قال: أو ما علمت أن رائحة فم الصائم أفضل عندي من ريح المسك؟ ارجع صم عشرة أيام ثم تعال، فرجع موسى وصام عشرة أيام، وهي مصداق قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾، ولما أراد أن يخرج ترك أخاه هارون عليه السلام في بني إسرائيل، وقال له: ﴿ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾، وذلك أن موسى عليه السلام هو صاحب الرسالة، وأما هارون عليه السلام فهو تابع له، وإن كان نبياً كريماً مع موسى صلوات الله وسلامه عليه، ولكن موسى هو الأصل، وهو من أولي العزم من الرسل، ﴿ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ وهذا ليس بعيب أن يقول الرجل لرجل صالح: «أصلح»، كما قال الله لنبيه محمد ﷺ: ﴿ٱتَّقِ ٱللَّهَ﴾، وليس في هذا منقصة لهارون لأن ﴿ٱلذِّكْرَى تَنْفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ .
مجيء موسى عليه السلام لميقات ربه سبحانه:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ يقول أهل العلم: لما سمع لذة الخطاب اشتاق إلى رفع الحجاب؛ أي: لما سمع كلام الله اشتاقت نفسه لرؤيته ــ جل وعلا ــ، وذلك أن أعظم نعيم يُعطاه المؤمنون في الجنة رؤية الله تبارك وتعالى، فموسى اشتاق إلى رؤية الله، فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾ لا تستطيع أن تراني، وذلك أن الله تبارك وتعالى أعطاه قوة بقدر، وهذه القوة لا يستطيع من خلالها أن يتحمل رؤية الله جل وعلا، وذلك أن الله جل وعلا كما أخبر عنه نبيه ﷺ: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقتْ سبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره»([23])، فالله عز وجل رحمةً بموسى قال: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ أنا منعتك رحمة بك، قال الله جل وعلا: ﴿وَلَكِنِ ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾، جبل من حجارة يصير دكاً لماذا؟! لأن الله جل وعلا تجلى له، لم يتحمل، فكيف بك أنت أيها الإنسان الضعيف كيف تتحمل ذلك؟
قال تعالى: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ سجد لله عز وجل، وقيل: أُغمي عليه، صُعِق لما رأى الجبل اندك بهذه السرعة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ مِنْ أني سألتك هذا في هذه الدنيا.
رؤية الله سبحانه وتعالىٰ في الآخرة:
ورؤية الله تبارك وتعالى ممكنة في الآخرة، وذلك أن الله ــ جل وعلا ــ جعل من ثواب المؤمنين في الجنة أنهم ينظرون إلى الله جل وعلا، بل هي أعظم نعمة، ولذلك قال الله تبارك وتعالى في وصف المؤمنين في الجنة: ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ من النضرة والبهاء والنور ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أي: تنظر إلى الله سبحانه وتعالى، وقال جل وعلا: ﴿عَلَى ٱلْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينظرون إلى نعم الله تبارك وتعالى، وأعظم نعم الله النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، ولذلك كان النبي ﷺ يسأل الله لذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، بل إن الله ــ جل وعلا ــ جعل من عقوبة الكفار أنهم لا يرون الله عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾، قال الإمام الشافعي رحمه الله: لما حَجَب الكفار، فإنه لن يحجب المؤمنين.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ٱلْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ والحسنى: الجنة وكل حسنٍ فيها، والزيادة كما قال النبي ﷺ: «الزيادة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى»([24])، وقال النبي ﷺ عن رب العزة سبحانه وتعالى: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما ينتهي إليه بصره»، والله سبحانه وتعالى إذا كان يوم القيامة كشف الحجاب للمؤمنين، فيرون وجهه تبارك وتعالى، وقال النبي ﷺ: «إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته كما ترون القمر ليلة البدر»([25])، والقمر ليلة البدر لا يحتاج الإنسان أن يدافع الناس حتى يراه، فالكل يراه، والكل في مكانه، فيقول النبي ﷺ كما أنكم ترون القمر دون مزاحمة من أحد كذلك سترون ربكم، بل إذا كان الجبل الذي هو جماد مكّنه الله ــ جل وعلا ــ من رؤيته، فعباده المؤمنون أولى أن يُمَكِّنَهم الله من رؤيته جل وعلا.
رجوع موسى عليه السلام إلى قومه:
خرج موسى إلى ميقات ربه ثم رجع بعدها إلى قومه فماذا رأى؟ يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾ وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ﴾، وقال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُّمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلـٰهُكُمْ وَإِلـٰهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ .
وقال الله جل وعلا: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ﴾ .
وقال الله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَاابْنَأُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَٱنْظُرْ إِلَى إِلـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفًا﴾ .
فهذه الآيات ذُكرت في قصة موسى مع قومه وعبادتهم للعجل، وهذا من فساد رأيهم، وعطب فكرهم.
عبادة العجل:
خرج موسى لميقات ربه وترك هارون عند قومه، فماذا فعلوا؟ جاءهم السامري، وهو رجل ليس من بني إسرائيل، وإنما التحق بهم، والذي حصل أنهم لما هربوا من فرعون كان بعض الناس قد سرق ذهباً من الأقباط؛ لأنهم قالوا: طالما سنخرج نسرق ذهباً فسرقوه، ثم لما تجاوز موسى وقومه البحر، وإذا هذا الذهب معهم، وهو معنى قولهم لموسى: ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ ٱلْقَوْمِ﴾ هو الذهب الذي سرقوه، وقد أمرهم موسى عليه السلام بإلقائه في اليم؛ لأنه لا يحل لهم، وقال: كيف تستحلونه؟ فألقوا الذهب، فقام السامري، وجمع الذهب كله، وهذا يدل على أن الذهب كان كثيراً، فصهره ثم صنع منه عجلاً، وهذا العجل صنعه بطريقة بحيث يدخل الهواء من دبره، فيخرج صوت من فم هذا العجل، فتعجبوا، وقالوا: ما هذا؟ عجيب هذا العجل! فقال لهم السامري: هذا إلٰه موسى الذي ذهب ليلتقي به، وقال: هذا إلٰه موسى خاصة أن موسى قال لهم: ثلاثون يوماً أذهب وآتي، فتأخر موسى عشرة أيام، وبعد أن تجاوز موسى الثلاثين أخرج السامري العجل، فقالوا ما هذا العجل؟ قال: ضاع موسى نسي إلٰهه، وسيأتي موسى ويقول لكم: هذا إلٰهي. قال هارون اتقوا الله ليس هذا إلٰه موسى، هذا عجل، هذا صنم، فلم يلتفتوا إلى هارون، ولذلك قال: ﴿إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾، فما كانوا يخافون من هارون؛ لأنه هين لَيِّن، ويخافون من موسى كثيراً؛ لأنه كان شديداً عليهم، واستمروا على عبادة ذلك العجل عشرة أيام، والله ــ جل وعلا ــ قال لموسى: إن قومك اتخذوا العجل من بعدك، والآن ارجع إليهم تجدهم يعبدون العجل ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ﴾، فرجع موسى إلى قومه غاضباً ﴿غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ والأسف هو أشدُّ الغضب يقول سبحانه: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا ٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ وآسفونا أغضبونا، ولما دخل عليهم؛ وجدهم يعبدون العجل، فألقى الألواح التي فيها كلام الله، ولكن بدون شعور، وذلك مما رآه من فعل بني إسرائيل مع العجل، فالتفت فوجد هارون مع القوم، والعجل يُعبد، فقال: أين أنت يا هارون من هذا؟ ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ من الغضب كيف عُبِدَ العجل؟ ﴿قَالَ ٱبْنَ أُمَّ﴾ يا أخي ﴿إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ﴾، وقال: ﴿لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾، خشيت أن تقول لِمَ لَمْ تنتظرني؟ فانتظرتك حتى تأتي، فعذر أخاه، وذهب إلى قومه، فقال لهم: لماذا عبدتم العجل؟ أعجلتم العذاب؟ أتريدون أن يُنزل الله عليكم العذاب؟ ﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُّمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ نحن ألقينا الزينة التي سرقناها كما أُمرنا، ثم بعد ذلك وجدنا هذا العجل، وقالوا: إنك نسيت ربك، وهذا ربك تركته، فعبدناه على هذا الأساس، والسامري هو الذي صنع لنا هذا العجل.
ولننظر كيف كانوا مع هارون فقد استضعفوه وكادوا أن يقتلوه، والآن مع موسى هم يخافونه، وقالوا: إنه السامري، فجاء بالسامري فقال: ما أمرك؟ ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ أي: رأيت أشياء ما رآها الناس، وما هذه الأشياء؟ قال أهل العلم: كان جبريل على فرس لما أغرق الله عز وجل فرعونَ وقومَه في البحر، وموسى عليه السلام لما جاء ليضرب بعصاه في البحر بعد أن عبروا قال له جبريل: دعهم يتقدمون لهم شأن آخر، فلما نجى الله عز وجل موسى ومن معه، وكان معهم جبريل، وهنا السامري انتبه أن هذا ليس إنساناً عادياً رغم أن جبريل كان بصورة بشر، فقال: هذا يأمر موسى ويطيعه موسى مَنْ هذا؟ فلما وضعت فرس جبريل حافرها على الأرض جاء وأخذ أثراً من هذا المكان وجعله في العجل فظهر له الصوت، ولذلك قال: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ وهو جبريل وفرسه ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ﴾ وهو جبريل وأثر قدم فرسه ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾ أي: في جسد العجل؛ فكان الصوت ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ .
فعرف الآن موسى عليه السلام قصة العجل، إذاً هذا الصوت الذي يخرج من العجل بسبب ما أخذه من أثر فرس جبريل عليه السلام، فقال له موسى: أنت الآن لك عقوبة خاصة ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ سيكون لك موعد وعذاب عند الله جل وعلا، وهذا العجل الذي تزعم أنه إلٰه سأحرقه حتى يعلم الجميع أنه ليس بإلٰه ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفًا﴾، ثم أحرق العجل، ثم نسفه في اليم ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، وانتهى أمر العجل، وتابوا، ورجعوا، وكما أن المعوج لا يستقيم؛ كذلك هؤلاء القوم فيهم اعوجاج شديد.
بنو إسرائيل يُؤْمَرون بقتل أنفسهم:
قالوا تبنا يا موسى قال: ﴿فَٱقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ هذه التوبة عند الله تبارك وتعالى، فجاءتهم ظلمة، فصار بعضهم يقتل بعضاً، حتى قيل: إنه قُتِلَ منهم قريب من سبعين ألفاً، ورفعت الظلمة، وقالوا: يا موسى هل تاب الله علينا؟ قال تاب الله عليكم، ولكن الآن سأختار منكم جماعة: ﴿وَٱخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾، أخذ موسى سبعين رجلاً مِنْ خيرة بني إسرائيل، وذهب بهم وقال: انتظروا هنا حتى أناجي ربي، قالوا: أسمعنا كلام ربك، لابد أن نسمع معك، فقال: تعالوا معي، فاقترب موسى، ثم كلم الله موسى، فسمعوا الكلام، فقالوا: يا موسى مَنْ هذا الذي كلمك؟ قال: ربي، قالوا: ﴿يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً﴾ وهؤلاء أحسن الناس في بني إسرائيل، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾، فلما رأى موسى السبعين هلكوا، وهم أحسن الناس في بني إسرائيل؛ قال: يا رب ماذا أقول عندما أرجع لبني إسرائيل؟ أقول لهم: إن الله أهلك السبعين؟ اللهم أحيهم واقبل توبتهم، وبدأ يدعو الله تبارك وتعالى ويستجير به سبحانه وتعالى، فاستجاب الله لموسى وأحياهم ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، فأحياهم الله تبارك وتعالى مرة ثانية.
والله سبحانه وتعالى ذكر الإحياء خمس مرات في سورة البقرة في هذا الموضع، والثانية في قصة البقرة: ﴿فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ﴾ التي ستأتينا، والثالثة الجماعة من بني إسرائيل ﴿ٱلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ والرابعة طيور إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، والخامسة قصة صاحب الحمار لما أماته الله عز وجل وحماره، ثم أحياه أمام عينيه ﴿أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾، وهذه كانت الأولى في بني إسرائيل.
بنو إسرائيل والتيه:
التيه فترة من الزمن أخبر الله تبارك وتعالى بها عن بني إسرائيل، وذلك لما أمرهم موسى أن يدخلوا بيت المقدس، فرفضوا ذلك، وقالوا له: ﴿فَٱذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ ضرب الله عليهم التيه يمشون لا يدرون أين هم لمدة أربعين سنة، فجاعوا، فرزقهم الله المنَّ والسّلْوى.
والمنُّ: حبات بيضاء من السماء يأكلها الشخص، فيجد فيها لذة.
والسّلْوى: العسل، وقيل: السلوى هو: بعض الطيور كالسمان بدون تعب وهم جلوس يأتيهم المنّ والسّلْوى، فماذا قالوا: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ مَللنا من المنّ والسّلْوى، إذاً ماذا تريدون؟ ﴿فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ هم عندهم المنّ والسَّلْوى ويريدون البصل، والبقل، والعدس، والثوم، والقثاء، فقال موسى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَى بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ وليس مصرَ الدولة المعروفة وإنما مصر من الأمصار يعني: هذه الأطعمة التي تريدون موجودة في كل مكان، ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ﴾ وهذا لتَعَنُّتِهم وعنادِهم، وكذلك لما صنعوا بموسى، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، فهذه أمة غريبة للغاية، الآن جاءهم، وقال: خذوا التوراة. قالوا: لا نأخذ التوراة، فنتق الله عليهم الجبل ــ أي رفعه ــ، وصار معلقاً في الهواء. قالوا: سمعنا وعصينا!! قال: أُنزل عليكم الجبل؟ قالوا: الآن سمعنا وأطعنا.
قصة البقرة:
ثم حدث في بني إسرائيل أن وجدوا قتيلاً، ولم يدروا من الذي قتله، فأمسكوا بشخصٍ ظنوه هو القاتل، فقال قائل منهم: هل تعرفون أن هذا هو القاتل لتتهموه؟ عندكم موسى اذهبوا إليه هو نبي وسيعلم، وهنا إما أنهم سألوا موسى على سبيل الصدق أو أنهم سألوه على سبيل الاستهزاء والسخرية؟ فجاؤوا إلى موسى، وقالوا: يا موسى قُتِلَ لنا قتيل فمن الذي قتله؟ وموسى لا يعلم الغيب صلوات الله وسلامه عليه، فالذي يعلم الغيب هو الله سبحانه وتعالى قالوا: ﴿ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ يخبرنا مَن الذي قتل قتيلنا؟ ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ قالوا: نقول لك قتل قتيلنا، وتقول اذبحوا بقرة!! ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ أتسخر منا؟
فقال: ﴿أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ﴾ قال: أرأيتم مني هذا؛ كم سنة عشتُ معكم، فهل مرة سخرت منكم؟ هل وقع مني هذا لكم من قبل؟ فقال لهم: اذبحوا بقرة، ولماذا بقرة؟ لماذا لم يكن حملاً أو شاة أو أسداً أو نمراً لماذا بقرة؟ لأنهم عبدوا العجل، فحتى يخرج حب العجل من قلوبهم.
قال الله تبارك وتعالى حكاية عنهم: ﴿قَالُوا ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَٱفْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ لا هي كبيرة، ولا صغيرة، فهي وسط ﴿فَٱفْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ * قَالُوا ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البَقَرَة: 68-70] قالوها: زِدْنا مِنْ صفاتها، هذا لا يكفي، فقال: ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا ٱلْآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ﴾، الآن نبحث عنها.
قال لهم: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ فلو ذبحوا أي بقرة لكانوا قد نفذوا الأمر، ولكنهم تعَنّتوا، أي بقرة تُذبح؟ قال لهم: لا فارض، ولا بكر، شدّدوا على أنفسهم وتعنتوا، فقالوا: ما لونها؟ قال: صفراء، ولكن فاقع لونها تسر الناظرين، فوجدوا مجموعة قليلة من الأبقار تنطبق عليها هذه الصفات، فقالوا بعد ذلك: أخبرنا أيضاً عن صفات هذه البقرة، قال: ﴿لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلْأَرْضَ﴾ ليست مذللة، ولا تحرث الأرض، فهي بقرة مذللة، ﴿وَلَا تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ لا تعمل بسقي الزرع.
وقيل ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ : لا عيب فيها ﴿قَالُوا ٱلْآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ وجدوا الأوصاف التي يبحثون عنها، ولأنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عز وجل عليهم، فقال صاحبها بعد أن زاد فيها أكثر من مرة: لا أبيعها حتى آخذ وزنها من الذهب، فجمعوا ذهبهم كله، ووزنوها له وأعطوه، فلما أعطاهم البقرة؛ أخذها موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، فذبحها، ثم أخذ جزء من البقرة، والله أعلم ما هو؟ قيل الذراع، وقيل الفخذ، المهم أنه أخذه، وضرب به الميت، فقام حياً بقدرة الله عز وجل، وقال موسى: الآن هو الذي يخبركم مَنْ الذي قتله؟ فقام المقتول بين أظهرهم، وقال قتلني فلان، فأخبر بقاتله ثم مات.
اذهب أنت وربك فقاتلا!!
أمر الله تبارك وتعالى موسى أن يقول: ﴿ٱذْكُرُوا نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ على الأرض بعد أن كانوا مستعبدين مضطهدين صاروا ملوكاً، ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ ٱلْعَالَمِينَ﴾، ثم بعد كل هذا أمرهم بأمر، فقال: ﴿يَاقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾، وهي بيت المقدس، وكانوا قد طردوا منها، فأمرهم أن يدخلوها، وهذا الجهاد هو جهاد الدفع ــ يعني دفع الكفار عن أرضهم ــ، وأما جهاد الطلب؛ فلا يكون إلا في أمة محمد ﷺ.
فالجهاد نوعان: جهاد دفع، وجهاد طلب.
وجهاد الدفع عند كل الأمم تدافع عن نفسها، وأما جهاد الطلب ــ وهو نشر الدعوة ــ فلم يكن إلا في أمة محمد ﷺ، ولذلك كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة والنبي ﷺ هو الذي بُعِثَ إلى الناس كافة، يجاهد ويخرج من بلاده إلى بلاد أخرى حتى ينشر الله الإسلام على الأرض كلها.
فهنا أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة ﴿ٱدْخُلُوا ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَامُوسَى﴾، ولم يقولوا: يا نبي الله، ولم يقولوا: يا رسول الله، وإنما نادوه باسمه، وهذا سوء أدب منهم مع موسى صلوات الله وسلامه عليه ﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾، ثم قال الله تبارك وتعالى مبيناً أنه ما يزال فيهم صالحون ﴿قَالَ رَجُلَانِ﴾ فقط، حتى إنه قال البعض: هذان الرجلان أحدهما: نبي، وهو: يوشع بن نون، والثاني: رجل صالح، وبعضهم قال: إنهما هارون ويوشع عليهما السلام، ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ أي: يخافون الله تبارك وتعالى ﴿أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ أنعم الله عليهما أن وفقهما لهذه المقولة ﴿ٱدْخُلُوا عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾، وكأن قوم موسى ما سمعوا شيئاً، فقالوا ثانية: ﴿يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا﴾ تكلم هذان أو لم يتكلما ﴿لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا﴾، ويا ليتهم سكتوا، لكنهم زادوا، فقالوا كلمة الكفر: ﴿فَٱذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، فبعد كل هذا الذي رأوه من موسى، ومن الله سبحانه وتعالى؛ يقولون: ﴿فَٱذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ فماذا تركوا لفرعون؟ وماذا تركوا للنمرود؟ وماذا تركوا لقارون؟ وماذا تركوا لهامان؟ هكذا يقولون لنبي الله موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، وانظروا إلى قولهم: ﴿أَنْتَ وَرَبُّكَ﴾، ولم يقولوا: أنت وربنا، وكأنه ليس برب لهم والعياذ بالله.
وهنا غضب موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، فقال ــ يعتذر إلى الله من فعل قومه ــ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾ فقط، فماذا أصنع بهم يا رب؟ ﴿فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ﴾، فسماهم فاسقين، والفاسق هو الخارج عن الشيء، وهم خارجون عن الطاعة، عن طاعة موسى عليه السلام ، فجاء الجواب من الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: هذه الأرض المقدسة محرمةٌ عليهم، فالذين يقولون هذا الكفر لن يدخلوها أبداً، ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلْأَرْضِ﴾ .
قال بعض أهل العلم: ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلْأَرْضِ﴾، فيجعلون التيه أربعين سنة، ثم يدخلون الأرض المقدسة، فتكون العقوبة محددة بأربعين سنة، أو تكون ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ ويقف، فتكون محرمة عليهم إلى الأبد: وزيادة على ذلك ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ﴾ لا تأسَ عليهم أبداً؛ لأنهم يستحقون ما سيصيبهم، وهؤلاء الذين قال الله فيهم سبحانه وتعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ﴾، فهؤلاء خير أتباع الرسل في ذلك الزمان، ولكم أن تتصوروا كيف كان يُصنع بالرسل غير موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ.
ولما خرج النبي ﷺ يوم بدر ــ خرج يريد العير أي: القافلة ــ، وقدر الله تعالى أن تَسْلَم العير، وأن تأتي قريش بحدها، وحديدها، وبرجالها، وفلذات أكبادها، فيختار الله تبارك وتعالى قريشاً، ويختار الناس العيرَ، ولا يقع إلا ما يختاره الله تبارك وتعالى، والنبي ﷺ إنما أخذ البيعة من الأنصار أن يدافعوا عنه، لا أن يقاتلوا معه، واستشارهم بعد أن جمعهم، وقال: «فلتت العير، وجاءتكم قريش بفلذات أكبادها فماذا ترون؟ نقاتلهم أو نرجع؟» يريد ألا يُجبر الأنصار على شيء خلاف ما تم الاتفاق عليه، فتكلم أبو بكر رضي الله عنه وأحسن، فسكتَ النبي ﷺ، وقال: «أشيروا عليّ»، فتكلم عمر رضي الله عنه وأحسن، فسكت النبي ﷺ، وقال: أشيروا عليّ، فوقف سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال: كأنك يا رسول الله تعنينا، تريد الأنصار؟ قال: «نعم»، فتكلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فأحسن، وقال: والله يا رسول الله لو خُضتَ بنا بَرْكَ الغماد؛ خضناه معك([26])، وقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: ﴿فَٱذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ولكن امض ونحن معك.
وفي رواية عند أحمد([27]): ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا، إننا معكما مقاتلون.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فكأنه سري عن رسول الله ﷺ([28]).
وفي رواية: ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك. حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والله لتمنيت أني قلتُ هذه الكلمات من شدة إعجابه ﷺ.
ولذلك فَضَّل الله أصحاب محمد ﷺ على أصحاب جميع المرسلين، وسيأتينا في قصة عيسى عليه السلام أن الحواريين الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾، الحواريون الذين قال عيسى صلوات الله وسلامه عليه: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ﴾ الصفوة من أتباع عيسى عليه السلام ماذا يقولون لعيسى عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَالَ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ﴾، فهؤلاء هم الصفوة من أتباع الرسل.
كذلك ما ورد في قصة طالوت مع قومه، وهو رجل صالح، وكان معه نبي وهو شمويل، ونبي آخر وهو داود عليه السلام، عندما يأمرهم أن يقاتلوا قوم جالوت وجنوده، ثم بعد ذلك يقول لهم: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، وهم الصفوة ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، وهؤلاء هم صفوة الصفوة، وانظر حال الصفوة من أصحاب محمد ﷺ، فهم خير أصحاب الرسل مطلقاً، ولذلك يدخلون الجنة بعد الأنبياء مباشرة؛ لأنهم خير أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
موسى يضرب بعصاه الحجر:
قال الله تبارك وتعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنْبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾، وقال الله جل وعلا: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ﴾، إذاً سقاهم الماء العذب بمعجزة، ثمّ ظلل عليهم الغمام، وهذا في التيه، في الأربعين سنة التي كانوا فيها تائهين، يقول: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ﴾ حتى صارت الصحراء ليست صحراء، بل مظللة بالغمام، لا تأتيهم الشمس ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَى﴾، وهم في الصحراء لا يحتاجون الصيد، والماء موجود، وكذلك المنّ والسلوى، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟! في الحضر قد لا تجد هذا الشيء فكيف في الصحراء؟! كل شيء موجود ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، بعد أن أكلوا قالوا أين الشراب؟ فانبجستْ مِنَ الأرض اثنتا عشرة عيناً، وبعد أن طعموا قالوا: أين الظل؟ فظلل الله عليهم بالغمام، وهكذا ظلُّوا في التيه طوال هذه الفترة، ثمّ بعد ذلك قال لهم يوشع بن نون عليه السلام: ﴿ٱدْخُلُوا ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ﴾، وذلك أن هارون عليه السلام قد مات في التيه، وكذلك موسى عليه السلام مات في التيه، وخَلَفَ هارونُ وموسى نبياً آخر، وهو يوشع بن نون عليه السلام ، وقد استطاع أن يقنعهم أن يدخلوا الأرض المقدسة، وقد ملّوا أربعين سنة، حتى يقال: إن الجيل كله مات، وهذا على القراءة التي قلنا فيها بالوقف على ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: لن يدخلوها أبدَ الآبدين، ثمّ جاء جيل آخر، وهو الذي دخل بيت المقدس مع يوشع بن نون.
وإذا قلنا: ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ فبقية منهم والجيل الذي بعدهم، ولكن الأشهر أن جميع ذلك الجيل قد ماتوا، وخرج جيل جديد، لكن الجيل الجديد هذا جيل من بني إسرائيل، فمن شابه أباه فما ظلم، وهذا الجيل الجديد مع يوشع بن نون نبي الله، يقول لهم الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُوا هَذِهِ ٱلْقَرْيَةَ﴾، وهي بيت المقدس ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَٱدْخُلُوا ٱلْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ .
استجابتهم ليوشع بن نون عليه السلام:
جاؤوا ليوشع عليه السلام ، فقالوا: ندخل فقد مللنا من الصحراء، نريد الرجوع إلى بلادنا وأهلينا، قال: ﴿ٱدْخُلُوا ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ﴾ لابد أن تجاهدوا، فقاتلوا مع يوشع عليه السلام ، ودخلوا الأرض المقدسة، فماذا قال الله جلّ وعلا لهم: ﴿وَٱدْخُلُوا ٱلْبَابَ سُجَّدًا﴾ شُكراً لله تبارك وتعالى ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي: اللهم حُطَّ عنا ذنوبنا، واغفر لنا ما مضى، فماذا فعلوا؟ دخلوا الأرض المقدسة يزحفون على مقاعدهم عناداً، كما قال النبي ﷺ: «فدخلوا يزحفون على إستاهم»([29]). الله عز وجل يقول: اسجدوا، وهم يزحفون على مقاعدهم عناداً لأنبياء الله جلّ وعلا، والله يقول لهم: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي: يا رب حُطَّ عنا ذنوبنا، فقالوا: حنطة حبةٌ في شعرة([30])، ودخلوا الأرض، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ .
قصة قارون:
وكان في قوم موسى عليه السلام رجل ذَكر الله قصته، يقال له: قارون.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ ذكر أهل الكتاب أن قارون كان ابن خالة موسى أو ابن عمته، وكان قارون هذا قد آتاه الله من الأموال الشيء العظيم، وكانت عنده كنوز، مفاتيحها يصعب على الرجال الأقوياء حملُها، وكان موسى عليه السلام يعظه، ويذكره بالله دائماً كلما رآه، ويذكره بالدِّين وترك الفجور والكفر والعصيان، وهو معاند إلى أن ملّ مِنْ دعوة موسى عليه السلام له، فجاء بجارية وأعطاها مالاً، وقال لها: اتهمي موسى بأنه اعتدى عليك، فوافقت وادَّعَتْ على موسى أنه زنى بها، فقال الناس: موسى؟! هذا غير معقول، فبعضهم صدق وَقَبِلَ، وبعضهم لم يصدق، فدعى موسى ربه أن يظهر الحق، فأصابتْ هذه الجارية رجفةٌ وخوفٌ شديد، فاعترفتْ، وقالت: لا، لم يصنع بي موسى شيئاً، قارون هو الذي أعطاني المال، وأراد أن يفضح موسى عليه السلام.
وقد ذكر الله عز وجل قصته، وقصة الكنوز التي أعطاها الله له، فقال: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُولِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ وَٱبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلْأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ما آتاني الله شيئاً، إنما أخذته على علم عندي.
قال الله: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْعِلْمَ﴾ [القَصَص: 78-80] وهذا فضل العلم ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلْقَّاهَا إِلَّا ٱلصَّابِرُونَ﴾ فكانت النتيجة: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ﴾، وهو كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فانتهى الأمر.
قال الله جل وعلا: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنْتَصِرِينَ﴾، فلا أحد ينصره، ولا هو يستطيع نصر نفسه ﴿وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِٱلْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾ ؛ لأنهم تمنَّوا مكانه وتمنوا أن يكونوا قد خرجوا في زينته كما يخرج، فلما رأوا ما صنع الله به خافوا وأذعنوا لله عز وجل.
فالله سبحانه وتعالى لا يحب المتكبرين؛ لأنه لا يحق لأحد أن يتكبر، الذي له أن يتكبر هو الله وحده سبحانه وتعالى، فهو صاحب الكمال والجلال، وأما الإنسان فكما قيل: أوله نطفه مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، فهو جيفة إن تركتها ولم تدفنها أنتنت، فهذا هو الإنسان تقتله شرقة، تؤذيه بقة، فعلى ماذا يتكبر؟!
قالوا: ﴿وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ * تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القَصَص: 82-83]
موسى والخضر عليهما السلام:
روى البخاري ومسلم([31]) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حدّثنا أُبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، خطبة ذرفت منها العيون، وخشعت منها القلوب، فقام رجل من بني إسرائيل، فلحق بموسى، ثمّ سأله، فقال: أي الناس أعلم؟
فقال موسى: أنا.
يقول النبي محمد ﷺ: «فعتب الله عليه، إذ لم يَرُدَّ العلم إليه»، وهذا عتاب من الله تعالى لموسى، كأن الله يقول له: هلا قلت: الله أعلم، أو قلت: أنا والعلم عند الله، لماذا تجزم بقولك: أنا، والناس يتعلمون منك، وأنت نبي كريم؟ بل عَلِّم الناس أن ينسبوا العلم دائماً إلى الله سبحانه وتعالى، فعتب الله عليه في هذه الكلمة.
فقال الله له: «بلى لي عبد في مجمع البحرين هو أعلم منك، فما كان من نبي الله موسى إلّا أن قال: أي ربِّ ومن لي به»، وهذا يدلّ على أن موسى كان متواضعاً صلوات الله وسلامه عليه، وإنما قال: أنا ليس من باب الاستعلاء على الناس، وإنما أخبر بما يعلم، وإنما عتب الله عليه أنه لم يقل: الله أعلم.
فقال الله له: «تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل وحيثما فقدت الحوت فهو ثّمَّ»، والحوت هو السمكة، وكل ما يعيش في البحر يقال: له حوت، ومنه قول النبي ﷺ عن طالب العلم: «إنه يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر»([32]) أي: الأسماك التي تعيش في البحر، وليس الحوت المعروف الذي هو أكبر الأسماك، والمِكتل هو: الزِمبيل، وجاء في بعض الأحاديث أنه حوت مُمَلَّح، وفيها أنه حوت ميت، وفيها أن الله قال: متى ما بَعَثْتُ الروح في هذا الحوت تجدُ صاحبك، إذاً أخذ حوتاً ميتاً مملحاً حتى لا يتعفن، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾، وذلك أنه أُخبر أنه سيجده عند مجمع البحرين ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾، يعني: دهوراً؛ أي: أستمر حتى أجد هذا الإنسان.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ .
قال النبي ﷺ: «ثمّ انطلق هو وفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة؛ وضعا رؤوسهما، فناما فاضطرب الحوت، فسقط في البحر ﴿فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَبًا﴾، فأمسك الله عن الحوت جرية الماء» أي: أمسك عنه جريان الماء، فوقف مثل الطاق «الخشبة»، يراه فتى موسى، «فانطلقا يمشيان بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد ﴿قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ »، فتى موسى رأى الحوت، وهو يخرج وموسى ما رآه، فقد كان نائماً، لكن فتى موسى عليه السلام نسي أن يقول له: إني فقدتُ الحوتَ في ذلك المكان، فاستمرا في المشي، وليس الغداء هو الحوت، وفتاه عندما ذهب إلى الزِمبيل تذكر أن الحوت قد ذهب من الأمس، وأنه نسي أن يقول لموسى صلوات الله وسلامه عليه.
قال النبي ﷺ: «ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا حيث أمرهما الله»، فالله سبحانه وتعالى يُسَهِّل الطريق طالما أننا نريد الخير، فموسى يريد الخير، يريد طلب العلم، وهذا يؤكد أنه «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة»([33]).
قال له فتاه: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى ٱلصَّخْرَةِ﴾ عندما نمنا عند الصخرة، ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ﴾ يعني خرج الحوت، ونسيتُ أن أخبرك، ثمّ اعتذر لنبي الله موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، فقال: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَبًا﴾ يعني: أمره عجيب، ولماذا؟ لأنه:
أولاً: ﴿فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَبًا﴾، يعني: سلك في الماء لكن لماذا، ﴿﴾ ؛ لأنه كان ميتاً، والميت لا يتحرك، ولكن نفخ الله فيه الروح.
ثانياً: وقف في الماء، وكأنه طاق لم يتحرك، فقد أوقف الله الماء حتى رأيته بأم عيني، وهذا أيضاً عجب يقول: ﴿وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَبًا﴾ .
قال النبي ﷺ: «فكان للحوت سرباً ولهما عجباً».
قال: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ أي: رجعا يقصان آثارهما ليعرفا مِنْ أين مشيا حتى يصلا إلى المكان الذي ناما عنده، والصخرة التي فقدا عندها الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة، ووصلا إلى المكان بعد مسيرة يوم وليلة، فإذا رجل مُسجى بثوب، فسلم موسى قال: «السلام عليكم»، فرد عليه، وقال: «وأنى بأرضك السلام» أي: ما سمعتُ السلام في هذه الأرض، فقال له نبي الله موسى: «أنا موسى قال: نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتُك لتعلّمَني مما عُلِّمْتَ رُشْداً. قال: يا موسى إني على علم علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه»، فكل واحد منهما تميز بعلم لا يعلمه الآخر.
وهذا الرجل اسمه الخضر، وقيل: إن (الخضر) لقب، وليس اسماً له، المهم سماه النبي الخضر قال النبي ﷺ: «إنما سمي خَضِراً؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضرة»([34])، ولهذا سمى بالخَضِر.
فقال له موسى: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: 66-67]، فقدم له العذر، ثمّ قال له: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: 68]، الأمور ستكون صعبة، وأنا أعذرك لو لم تصبر، فقال:﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 69-70]
بداية مواقف موسى مع الخضر:
انطلقا ــ موسى والخضر ــ يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فقال أهل السفينة لموسى والخَضِر: تركبان معنا نوصلكما للضفة الأخرى؟ قالا: نعم، فعرفوا الخضر، وهو رجل صالح عندهم، وهو ــ على الصحيح ــ نبي مِنْ أنبياء الله، «فعرفوا الخضر فحملوه بغير نَولٍ([35])، فلما ركبا في السفينة؛ جاء عصفور فوقع على طرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر لموسى: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره مِن البحر»، فسبحانه لا إلٰه إلّا هو العليم، ولذلك الله عز وجل لما يذكر نفسه سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، بل علم موسى وعلم الخضر عليهما السلام إنما هو من العليم الخبير كما قال سبحانه: ﴿وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ .
قال ﷺ: «فلم يفجأ موسى إلّا وأن خلع لوحاً بالقَدُوم» بالفأس «فاستغرب موسى وقال له: ما هذا الذي تصنع؟ قوم حملونا بغير نَولٍ فعمدت إلى السفينة فخرقتها ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ » والإمر: الشيء العظيم، والشيء السيء.
فقال له الخضر عليه السلام: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: 72-73] فسكت الخضر، قال النبي ﷺ: «فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مرَّا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه، فقلعه» أي: خلعه، فقال له موسى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ والنُّكر: هو الشيء العظيم، وهو أعظم من الأول، فهنا عدم صبر موسى ليس نسياناً، لم ينسَ؛ لأن قتل الغلام لا يمكن أن يسْكت عنه، فقال له الخضر: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، فأنا أنذرتُك من البداية أنك لن تستطع معي صبراً، فسكت موسى، وقال: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾، فاستحيى موسى أن يقول له: سامحني، فوضع حداً، وقال: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ .
قال النبي ﷺ: «كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً وقع منه».
قال: ﴿فَٱنْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ » قرية لؤم كما قال ابن عباس: أهلها لئام ما يضيفون للضيف، ولذلك قالوا: «أشرُّ القُرى التي تبخل بالقِرى» يعني: بالضيافة، فالضيافة في الإسلام واجبة، يجب أن يكرم الضيف يومه وليلته، وثلاثة أيام مستحبة.
والظاهر أنها كذلك في شريعة موسى عليه السلام ، ولذلك عابهم موسى عليه السلام.
قال: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ مائلاً يريد أن يسقط، فأشار إليه بيده، ومسح عليه، فاعتدل الجدار، فقال موسى ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ للخضر عليه السلام: «قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا وعمدت إلى حائطهم فأصلحته ﴿لَوْ شِئْتَ لَٱتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ »، فقال له الخضر عليه السلام: هذا يكفي ﴿هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾، فالأولى نسياناً، والثانية وضعت شرطاً، والثالثة عمداً.
قال الخضر لموسى:﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾، وقال النبي ﷺ: «وددنا أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما».
قال الخضر: ﴿أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ﴾، والمسكين أحسن حالاً من الفقير:
فالفقير: هو الذي لا يملك شيئاً كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ ٱلْمُهَاجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾، فلا دار، ولا مال.
والمسكين: فهو الذي يملك شيئاً، ولا يكفيه، ولهذا هؤلاء يملكون سفينة، وسماهم الله مساكين، ومنه قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَٱلْمَسَاكِينِ﴾، فقدم الفقراء على المساكين؛ لأنهم أحوج من المساكين.
قال: ﴿أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ﴾ ﴿وَرَاءَهُمْ﴾ هنا يقول ابن عباس: بمعنى أمامهم، فكان هناك ظالم إذا مرّت عليه سفينة صادرها، فأراد الخضر عليه السلام أن يعيب هذه السفينة ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ بحيث إذا رآها الشُرط، وهم جنود الملك لا تعجبهم، فيتركونها لهم، فلأن يتركوا لهم السفينة معيبة أفضل مِنْ أن يأخذوها كلها، والمقصود بكل سفينة: أي كل سفينة صالحة يغصبها منهم الملك.
وأما الغلام: ﴿وَأَمَّا ٱلْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤُمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ وهذا الغلام الظاهر من قول الله تبارك وتعالى أنه دون سن التكليف، ولذلك سماه: غلاماً، والغلام هو: الوليد الصغير، والبنت يقال لها: جارية، هذا الغلام أبواه كانا مؤمنين، فخشي الخضر عليه السلام أن يرهقهما؛ لأنه إذا كَبُر كما علم الله عز وجل أنه سيكفر، ﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فأمر الخضر عليه السلام أن يقتله صغيراً رحمةً بوالديه؛ لأنه سيرهقهما طغياناً وكفراً، وقد يكفران بسببه، لحبهما له، فيطيعانه في كل شيء حتى لو طلب منهما أن يَكْفُرا لكَفَرا.
والجدار: قال: ﴿وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾، فإن القرية أهلها لئام، ولكن لابد أن فيها بعض الصالحين، وهذا الصالح الذي فيها مات منذ زمن بعيد، قالوا: هو الجد السابع، وقيل: العاشر، فالله عز وجل يحفظ الابن بجده العاشر، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ .
وماذا سيحدث إذا سقط الجدار؟ إذا سقط الجدار سيخرج الكنز، ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ فإذا وجدوا كنزاً لغلامين صغيرين؛ فقد يأخذون المال كله، خاصة وهم أشرار، فالأفضل أن نصلح الجدار حتى يكبر الغلامان، وبعد ذلك يسقط الجدار بأمر الله سبحانه وتعالى ويخرج الكنز، وفي ذلك الوقت لن يستطيع أحد أن يتعدى عليهما.
وهذه أمور لو تأملها الإنسان ــ حقيقة ــ فإنه يعذر موسى عليه السلام، فهي أمور لا يستطيع أحد أن يصبر عليها، إلّا أنها من أمور الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولهذا الخضر عليه السلام منذ البداية قال: لن تسطيع ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ .
أدب الخضر عليه السلام مع الله عز وجل:
وهنا وقفة عند قول ــ الله تبارك وتعالى ــ عن الغلام قال الخضر: ﴿وَأَمَّا ٱلْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤُمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ .
أردنا: أدخل نفسه في الخطاب، وأما عند الجدار فماذا قال؟ قال: ﴿وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ فهنا قال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ وهناك قال: ﴿فَأَرَدْنَا﴾ فما الفرق؟
قالوا: هذا من حسن الأدب مع الله عز وجل مع أن كلا الأمرين مِنْ الله عز وجل، فالله هو الذي أمره أن يقتل الغلام، والله هو الذي أمره أن يقيم الجدار، لكن الخضر عليه السلام عالم بالله ونبي كريم لم ينسب قتل الغلام لله عز وجل؛ لأنه في الظاهر عمل سيء، فما أراد أن ينسب السيء إلى الله تبارك وتعالى بينما بناء الجدار ظاهره عمل حسن، ولذلك موسى عليه السلام أنكر عليه أنه فعله بدون مقابل، فالشيء الذي ظاهره خير نسبه إلى الله وحده سبحانه وتعالى والشيء الذي ظاهره سيء نسبه إلى نفسه أدباً مع الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك ما ورد عن الجن قالوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي ٱلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ مع أن المريد واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فالأمر كله بيد الله عز وجل، ولكن من أدب الجن مع الله سبحانه وتعالى أنهم نسبوا الرشد لله عز وجل، ولم ينسبوا الشرَّ إليه سبحانه، ونقول في دعائنا: «والخير كله في يديك والشر ليس إليك»([36])، مع أنه في يديه، لكنه ليس إليه.. لماذا؟ أدباً، نتأدب مع الله، فلا ننسب الشرَّ إليه فعلاً، وإن كان يُنسب إليه خلقاً، فمن الذي خلق إبليس الذي هو رأس الشر؟ خلقه الله سبحانه وتعالى، والله لا يفعل الشر وإن كان خلقه جل وعلا.
همة موسى عليه السلام في طلب العلم:
لما جاء موسى إلى الخضر عليهما السلام قال: أريد أن أتعلم منك قال: من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: عندك التوراة فيها حكم كل شيء، وتأتيني تتعلم مني؟ قال: نعم جئت لأتعلم، وهذا الحرص من موسى صلوات الله وسلامه عليه يدلنا على أن طلب العلم من الأشياء المحببة للنفس، ولذلك السلف ــ رحمهم الله تعالى ــ سعوا إلى طلب العلم سعياً حثيثاً، وهذا موسى صلوات الله وسلامه عليه سافر لطلب العلم عند هذا الرجل وهو الخضر عليه السلام([37]).
المفاضلة بين موسى والخضر عليهما السلام:
موسى أفضل أم الخضر عليهما السلام؟ خاصة أن الله قال لموسى عندما سُئل من أعلم أهل الأرض؟ قال: أنا. قال الله: عبدي فلان أعلم منك، اذهب إليه.
فقال البعض: الخضر أعلم من موسى، وهذا خطأ، فموسى أعلم من الخضر، وأفضل وأعظم عند الله ــ جل وعلا ــ ولكن الخضر أعلم في جانب دون جانب، والخضر بيّن هذا، فقال: «أنا على علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم لا أعلمه أنا»، لكن الجوانب التي يعلمها موسى أعظم بكثير من الجوانب التي يعلمها الخضر عليه السلام ، ولذلك نصَّ أهل العلم أنه مِنَ الجهل أن يقال: إنّ الخضر عليه السلام أعلم من موسى عليه السلام ، وذكروا لذلك أسباباً كثيرة:
أولاً: أن موسى عليه السلام هو كليم الله عز وجل، وهذه منزلة جليلة لم ينلها الخضر.
ثانياً: موسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، بينما الخضر قد اختلفوا في نبوته، هل هو نبي أم رجل صالح؟ فلا شك أنه أفضل من الخضر عليه السلام بكثير، وإذا قلنا بأن الخضر عليه السلام رجل صالح، فمهما بلغ من الصلاح؛ فلا يُفَضَّل أحد من غير الأنبياء على الأنبياء عليهم السلام، وذلك أن الله عز وجل اصطفى الأنبياء على الناس واجتباهم واختارهم، قال تبارك وتعالى: ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، وقال: ﴿ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾ وموسى ﷺ هو سيد أنبياء بني إسرائيل، من سبق ومَن لحق، فجميع أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى ﷺ هم تبع له، وهم: داود، وسليمان، وأيوب، وعيسى، وزكريا، ويحيى عليهم السلام، حتى عيسى ﷺ مع أنه من أولي العزم من الرسل؛ فهو تابع لموسى ﷺ، كما قال: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، فموسى عليه السلام هو أعظم أنبياء بني إسرائيل على الإطلاق.
ثالثاً: الله عز وجل أخبر خبراً عظيماً عن موسى عليه السلام ، فقال: ﴿إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾، ولم يذكر ذلك عن الخضر عليه السلام.
رابعاً: أخبر النبي ﷺ أن «الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى واقفاً قد أخذ بقوائم العرش»([38]).
وهذا لا يعني أن موسى عليه السلام أفضل من النبي محمد ﷺ، كما ورد أن «أول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام»([39])، فالله عز وجل يعطي فضائل لكل واحد في جانب من الجوانب، ولكن ينظر في مجمل الفضائل.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجلان، رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقام اليهودي وقال: والذي اصطفى موسى على العالمين، فغضب المسلم فرفع يده وصكَّ اليهودي ــ أي: لطمه ــ، فذهب اليهودي مباشرة إلى النبي ﷺ يشتكي؛ لمعرفته بأنه ﷺ نبيُ عدلٍ ورحمة، فذكر له ما حدث، فقال ﷺ: «لا تخيروني على موسى»([40])، وهذا مع أنه القائل: «أنا سيد ولد آدم»([41])، وهذا النهي منه ﷺ إنما هو على سبيل التواضع، أو «لا تخيروني» من باب التنقيص لموسى عليه السلام ، أما إذا خرج مخرج الإخبار دون تنقص؛ فهذا لا حرج فيه.
فلا شك أن موسى عليه السلام أفضل من الخضر بدرجات، ولكن الخضر عليه السلام على علم لا يعلمه موسى صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يحدث كثيراً، فقد يكون الإنسان عالماً في مسألة علِمَها، ولا يعلمها غيره، ولا يلزم أنه الأفضل، وكما قالوا: كم ترك الأول للآخر.
موسى عليه السلام وملك الموت:
لم يذكر الله عز وجل لنا كم مكث موسى عليه السلام في بني إسرائيل، ولكن ذكر لنا النبي ﷺ أن الله عز وجل قد أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، قال رسول الله ﷺ: «جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، فقال له: أجب ربك. قال: فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت، ففقأها. قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني. قال: فرد الله إليه عينه. وقال: ارجع إلى عبدي، فقل الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة؛ فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعره؛ فإنك تعيش بها سنة. قال: ثمّ مَه؟ قال: ثمّ تموت، قال: فالآن من قريب، ربِّ أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر»([42]).
فموسى عليه السلام بعد هذا العناء، وبعد هذه الحياة الطويلة، وكيف أنه كان مستهدفاً في زمن فرعون وبعده، ثم الإيذاء الذي وقع له ﷺ، ثمّ يدخل عليه أحد في بيته ويقول له: أجب ربك، سأقتلك، وأقبض روحك، فقام موسى عليه السلام فلطمه، ففقأ عينه، فقأ عين مَنْ؟ إنه ضرب الآدمي الذي أمامه، فقد آتاه ملك الموت على صورة آدمي، فلم يعرفه، ثمّ إن ملك الموت تأدَّب مع موسى عليه السلام فما قبض روحه، فهو كليم الله عز وجل، وله منزلته، فرجع إلى ربه، فقال: رب إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، فرد الله عينه، فالضربة لم تأتِ على الملك، وإنما على صورة الآدمي؛ لأن الملك خُلِقَ من نور، لكنه يتشكل بصورة الآدمي، فردَّ الله له عينه، وقال له: ارجع إلى موسى، فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريدها؛ فضع يدك على متن ثور، فما توارى تحت يدك من شعره، فإنك تعيش بها سنة، لك بكل شعرة سنة، فرجع الملك إلى موسى عليه السلام وعينه قد رجعت صحيحة، قال: يقول لك ربك: ضع يدك على ظهر ثور، ولك بكل شعرة تواريها يدك سنة، قال موسى: ثمّ مَه؟ قال: ثمّ تموت، قال: «فالآن من قريب»، وجاء عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يموت نبي إلّا ويخيره الله بين الحياة والموت»([43])، واختار موسى صلوات الله وسلامه عليه الموت، ثمّ قال: «رب أمتني من الأرض المقدسة برمية حجر» يعني: أريد أن أموت قريباً من المكان المبارك، من الأرض المقدسة، وهذا يدلّ على أن الإنسان كلما دُفن في مكان مبارك كان أفضل.
فقال له سبحانه: لك هذا، فدفن موسى عليه السلام في ذلك المكان وهكذا تُوفي نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه.
([2]) أي: النساء اللاتي ينظرنَ في الحُمَّل من النساء.
([3]) أخرجه البخاري (5029)، ومسلم (1425).
([5]) «تفسير ابن كثير» (6/227).
([6]) «تفسير الطبري» (19/562).
([7]) أخرجه البخاري (3704) من حديث عائشة ؟ب.
([8]) أخرجه البخاري (5029)، ومسلم (1425).
([10]) يعني: شجرة عُلَّيقَة، وقيل: شجرة عوسج، وقيل: غيرها من الأشجار.
([11]) أخرج مسلم (2473) أن النبي ﷺ قال عن زمزم: «إنها مباركة إنها طعام طعم»، وفي رواية: «وشفاء سقم».
([12]) قال الله تعالى: ﴿.. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ...﴾ [النور: 35]، وقال ﷺ: «كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» أخرج الترمذي (1774) من حديث عمر رضي الله عنه.
([13]) عن جابر رضي الله عنه أنّ النبي ﷺ أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: «إنكم لا تدرون في أيِّهِ البركة»، أخرجه مسلم (2033).
([14]) قال النبي ﷺ: «البركة في نواصي الخيل» أخرجه البخاري (2851)، ومسلم (1872).
([15]) أخرجه الترمذي (2180)، وصححه الشيخ الألباني في «مشكاة المصابيح» (5408).
([17]) أخرجه البخاري (3402) من حديث عبد الله بن عمرو ؟ت.
([18]) أخرجه البخاري (2004)، ومسلم (1130).
([19]) أخرجه الترمذي (3537)، وابن ماجه (4253)، وحسنه الشيخ الألباني في «صحيح الترغيب» (3143).
([20]) أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583).
([21]) أخرجه أحمد (5/218)، والترمذي (2180)، والنسائي في «السنن الكبرى» (11185)، وصححه الشيخ الألباني في «مشكاة المصابيح» (5408).
([22]) أي: من إصرارهم على عدم الاستقامة على الحق.
([25]) أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633).
([26]) أخرجه مسلم (1779) وفيه أن القائل هو: سعد بن عبادة رضي الله عنه.
([28]) أخرجه البخاري (4243) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([29]) أخرجه البخاري (343)، ومسلم (3015).
([31]) أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).
([32]) أخرجه أبو داود في (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وهو في «صحيح الجامع» (6297).
([33]) انظر التخريج السابق، وأيضاً وردت هذه الفقرة في ثنايا حديث أخرجه مسلم (2699).
([37]) الرحلة في طلب العلم مِنْ سنن العلماء كما هو مشهور، ومِنْ ذلك قول ابن
مسعود رضي الله عنه: «ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه» أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463).
([38]) أخرجه البخاري (4638)، ومسلم (2373).
([39]) أخرجه البخاري (3349)، ومسلم (2860).
([40]) أخرجه البخاري (2411)، ومسلم (2373).